ولما كانوا قد سألوا عند نزول الآية عما من شأن الأنفس الصالحة؛ الناظرة للورع؛ المتحرك للسؤال عنه؛ وهو من مات منهم وهو يفعلهما؛ قال - جوابا لذلك السؤال -: ليس على الذين آمنوا وعملوا ؛ أي: تصديقا لإيمانهم؛ الصالحات جناح ؛ فبين - سبحانه - أن هذا السؤال غير وارد؛ لأنهم لم يكونوا منعوا منهما؛ وكانوا مؤمنين؛ عاملين للصالحات؛ متقين لما يسخط الرب من المحرمات؛ وقد بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد؛ - رضي اللـه عنه - قال: حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي هريرة المدينة وهم يشربون الخمر؛ ويأكلون الميسر؛ فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ [ ص: 296 ] فأنزل الله (تعالى) على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يسألونك عن الخمر والميسر ؛ فقال الناس: لم يحرم علينا؛ إنما قال: إن فيهما إثما؛ وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب؛ فخلط في قراءته؛ فأنزل الله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ؛ فكانوا يشربونها حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق؛ فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ؛ فقالوا: انتهينا يا رب؛ وقال الناس: يا رسول الله؛ ناس قتلوا في سبيل الله؛ أو ماتوا على فرشهم؛ كانوا يشربون الخمر؛ ويأكلون الميسر؛ وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان؛ فأنزل الله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم"؛ ولا يضر كونه من رواية عن أبي معشر وهو ضعيف؛ لأنه موافق لقواعد الدين؛ وروى الشيخان عن رضي اللـه عنه - قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أنس - أبي طلحة - رضي اللـه عنه -؛ وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر؛ والتمر؛ وإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت؛ فقال لي - رضي الله عنه -: اخرج فاهرقها؛ [ ص: 297 ] فهرقتها؛ فقال بعض القوم: قد قتل فلان وفلان وهي في بطونهم؛ فأنزل الله (تعالى): أبو طلحة ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح على أنه لو لم يرد هذا السبب كانت المناسبة حاصلة؛ وذلك أنه (تعالى) لما أباح الطيب من المأكل؛ وحرم الخبيث من المشرب؛ نفى الجناح عمن يأكل ما أذن فيه؛ أو يشرب عدا ما حرمه؛ فأتى بعبارة تعم المأكل والمشرب؛ فقال: فيما طعموا ؛ أي: مأكلا كان؛ أو مشربا؛ وشرط ذلك عليهم بالتقوى؛ ليخرج المحرمات؛ فقال: إذا ما اتقوا ؛ أي: أوقعوا جميع التقوى التي تطلب منهم؛ فلم يطعموا محرما.
ولما بدأ بالتقوى؛ وهي خوف الله؛ الحامل على البعد عن المحرمات؛ ذكر أساسها الذي لا تقبل إلا به؛ فقال: وآمنوا ولما ذكر الإقرار باللسان؛ ذكر مصداقه؛ فقال: وعملوا ؛ أي: بما أداهم إليه اجتهادهم بالعلم؛ لا اتفاقا؛ الصالحات ثم اتقوا ؛ أي: فاجتنبوا ما جدد عليهم تحريمه؛ وآمنوا ؛ أي: بأنه من عند الله؛ وأن الله له أن يمحو ما يشاء؛ ويثبت ما يشاء؛ وهكذا كلما تكرر تحريم شيء كانوا يلابسونه.
ولما كان قد نفى الجناح أصلا ورأسا؛ شرط الإحسان؛ فقال: ثم اتقوا وأحسنوا ؛ أي: لازموا التقوى؛ إلى أن أوصلتهم إلى مقام المراقبة؛ وهي الغنى عن رؤية غير الله؛ فأفهم ذلك أن من لم يبلغ [ ص: 298 ] رتبة الإحسان لا يمتنع أن يكون عليه جناح مع التقوى؛ والإيمان؛ يكفر عنه بالبلايا؛ والمصائب؛ حتى ينال ما قدر له مما لم يبلغه عمله من درجات الجنان؛ ومما يدل على نفاسة التقوى وعزتها أنه - سبحانه - لما شرطها في هذا العموم؛ حث عليها عند ذكر المأكل بالخصوص - كما مضى – فقال: واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون وهذا في غاية الحث على وإشارة إلى أنه لا يوصل إلى مقام الإحسان إلا به؛ والله الموفق; ولما كان التقدير: "فإن الله يحب المتقين المؤمنين"؛ عطف عليه قوله: التورع في المأكل؛ والمشرب؛ والله ؛ أي: الذي له صفات الكمال؛ يحب المحسنين