ولما ذكر ما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم في المبايعات بعد أن عد الذين آمنوا أصلا في امتحان المهاجرات فعلم من ذلك أن تولي النساء مع أنه لا ضرر فيهن بقتال ونحوه لا يسوغ إلا بعد العلم بإيمانهن، وكان الختم بصفتي الغفران والرحمة مما جرأه على محاباة المؤمنين لبعض الكفار من أزواج أو غيرهم لقرابة أو غيرها لعلة يبديها الزوج أو غير ذلك من الأمور، كرر سبحانه الأمر بالبراءة من كل عدو، ردا لآخر السورة على أولها تأكيدا للإعراض عنهم وتنفيرا [ ص: 527 ] من توليهم كما أفهمته آية المبايعة وآية الامتحان، فقال ملذذا لهم بالإقبال بالخطاب كما فعل أولها بلذيذ العتاب: يا أيها الذين آمنوا .
ولما كان الميل عن الطريق الأقوم على خلاف ما تأمر به الفطرة الأولى فلا يكون إلا عن معالجتها، عبر بالتفعل كما عبر به أول السورة بالافتعال فقال: لا تتولوا أي تعالجوا أنفسكم أن تتولوا قوما أي ناسا لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب الأولى غضب الله أي أوقع الملك الأعلى الغضب عليهم لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولا أوليا.
ولما كان السامع لهذا يتوقع بيان سبب الغضب، قال معللا ومبينا أنه لا خير فيهم يرجى وإن ظهر خلاف ذلك: قد يئسوا أي تحققوا عدم الرجاء من الآخرة أي من أن ينالهم منها خير ما لإحاطة معاصيهم بهم أو لعدم اعتقادهم لقيامها ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فيوشك من والاهم يكتب منهم فيحل بهم الغضب كما يئس من نيل الخير منها الكفار ولما كان من مات فصار أهلا للدفن كشف له عن أحوال القيامة فعرف أنه ناج أو هالك، وكان الموتى أعم من الكفار، وموتى الكفار أعم ممن يدفن منهم فقال: [ ص: 528 ] من أصحاب القبور فإن الكفار منهم قد علموا يأسهم من حصول الخير منها علما قطعيا، ويجوز أن يكون من ابتدائية فيكون المعنى: كما يئس عباد الأوثان من لقاء من مات، فدفن باعتقاد أنه لا اجتماع بينهم أصلا لأنه لا يمكن بعثه لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة لأنه لا آخرة عندهم أصلا لا سيما إن كان مدفونا في قبر، وعلى هذا يكون الظاهر وضع موضع المضمر للدلالة على أن الذي أيأسهم تغطية الدلائل مع وضوحها لو أنصفوا، فلا تتولوا من هذه صفته فيكون بينكم وبينه ما بين القريب مع قريبه من تولي كل منهم من الآخر ما يتولاه القريب الصديق لقريبه فإن توليهم ضرر لا نفع فيه فإن من غضب عليه الملك الشهيد لكل حركاته وسكناته لا يفلح هو ولا من تولاه، وأقل ما في ولايته من الضرر أنها تنقطع المعاونة فيها، والمشاركة بالموت وإن كان بعد الموت مشاركة ففي العذاب الدائم المستمر الذي لا ينقطع عنهم والخزي اللازم، وقد علم أن هذا الآخر هو أولها، وهذا الموصل مفصلها، فسبحانه من أنزله كتابا معجزا حكيما، وقرآنا موجزا جامعا عظيما.