ولما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان؛ أو أعظمها؛ والنزاهة عنه من أعظم موجبات النصر؛ كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية [ ص: 110 ] بآية الغلول؛ بيانا لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة؛ فإنه لا يخذل إلا بالذنوب؛ ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلول؛ فيكون المراد بتنزيهه - صلى الله عليه وسلم - عنه - والله أعلم - أن إقبالهم على نهب الغنائم قبل وقته؛ إما أن يكون لقصد أن يغلوا بإخفاء ما انتهبوه؛ أو بعضه؛ وإما أن يكون للخوف من أن يغل رئيسهم؛ وحاشاه؛ وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة؛ بألا يقسمه - صلى الله عليه وسلم - بينهم على السواء؛ وحاشاه من كل ذلك؛ وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد؛ فخفة؛ وطيش؛ وعبث؛ لا يصوب عاقل إليه; إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير: "فليتوكلوا في كبت العدو؛ وتحصيل ما معه من الغنائم؛ فلا يقبلوا على ذلك إقبالا يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل"؛ وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول؛ وبأنه سبب للخذلان؛ وما نهى - صلى الله عليه وسلم - قط عن شيء إلا كان أول تارك له؛ وبعيد منه؛ وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقا إلى هذا الاحتمال؛ فعبر عن ذلك بقوله - عطفا على
وكأين من نبي وما كان ؛ أي: ما تأتى؛ وما صح؛ في وقت من الأوقات؛ [ ص: 111 ] ولا على حالة من الحالات؛ لنبي ؛ أي: أي نبي كان؛ فضلا عن سيد الأنبياء؛ وإمام الرسل؛ أن يغل ؛ تبشيعا لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال؛ زجرا من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر؛ وعلى قراءة الجماعة - غير ابن كثير؛ - بضم الياء؛ وفتح العين؛ مجهولا من: "أغل"؛ المعنى: "وما كان له وما صح أن يوجد غالا؛ أو ينسب إلى الغلول؛ أو يظن به ما يؤدي إلى ذلك"; ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله - سبحانه وتعالى - وحده: "فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل؛ كالغلول؛ وما يدانيه فتخذلوا؛ فإنه ما كان لكم أن تغلوا"؛ و"ما كان"؛ أي: ما حل لنبي؛ أي: من الأنبياء قط؛ أن يغل؛ أي: لم أخصكم بهذه الشريعة؛ بل وأبي عمرو فلا تفعلوه؛ ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب؛ فإن ذلك يسلب كمال التوكل؛ فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه؛ فيوجب له الخذلان؛ روى ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول؛ في الكبير - قال الطبراني الهيثمي - ورجاله ثقات -: عن - رضي الله (تعالى) عنهما - قال: ابن عباس وما كان لنبي أن يغل ". [ ص: 112 ] ولما كان فعلهم ذلك محتملا لقصدهم الغلول؛ ولخوفهم من غلول غيرهم؛ عمم في التهديد؛ بقوله: "بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا؛ فردت رايته؛ ثم بعث؛ فردت؛ ثم بعث فردت بغلول؛ رأس غزال من ذهب؛ فنزلت: ومن يغلل ؛ أي: يقع منه ذلك؛ كائنا من كان؛ يأت بما غل يوم القيامة ؛ ومن عرف كلام أهل اللغة في الغلول؛ عرف صحة قولي: إنه لمطلق الخيانة؛ وإنه يجوز أن يكون التقدير: "وما كان لأحد أن يفعل ما يؤدي - ولو على بعد - إلى نسبة نبي إلى غلول"؛ قال صاحب القاموس: "أغل فلانا": نسبه إلى الغلول؛ والخيانة؛ و"غل غلولا": خان؛ - كـ "أغل"؛ أو خاص بالفيء؛ وقال الإمام في كتابه "الواعي": "أغل الرجل إغلالا"؛ إذا خان؛ فهو "مغل"؛ و"غل في المغنم؛ يغل غلولا"؛ وقرئ: "أن يغل"؛ و"أن يغل"؛ فمن قرأ: "يغل"؛ أراد: "يخون"؛ ومن قرأ: "يغل"؛ أراد: "يخان"؛ ويجوز أن يريد: لا ينسب إلى الخيانة؛ وكل من خان شيئا في خفاء فقد غل؛ يغل؛ غلولا؛ ويسمى الخائن غالا؛ وفي الحديث: عبد الحق الأشبيلي؛ الإغلال: الخيانة في كل شيء؛ و"غللت الشيء أغله غلا"؛ إذا سترته؛ قالوا: ومنه "لا إغلال؛ ولا إسلال"؛ الغلول في المغنم؛ إنما أصله أن الرجل كان إذا أخذ منه شيئا ستره في متاعه؛ فقيل للخائن: "غال"؛ و"مغل"؛ ويقال: "غللت الشيء في الشيء"؛ إذا أدخلته فيه؛ و"قد انغل"؛ إذا دخل في الشيء؛ و"قد انغل في الشجر"؛ [ ص: 113 ] دخل"؛ انتهى؛ فهذه الآية نهي للمؤمنين عن الاستباق إلى المغنم؛ على طريق الإشارة؛ فتم بها الوعظ الذي في أواخر القصة؛ كما أن آية الربا نهي عنه؛ على طريق الإشارة؛ فتم بها الوعظ الذي في أوائل القصة؛ فقد اكتنف التنفير من الغلول - الذي هو سبب الخذلان في هذه الغزوة؛ بخصوصها؛ لمباشرة ما هو مظنة له؛ وفي الغزو مطلقا - طرفي الوعظ فيها؛ ليكون من أوائل ما يقرع السمع وأواخره.
ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه؛ عمم الحكم؛ تنبيها على أن ذلك اليوم يوم الدين؛ فلا بد من الجزاء فيه؛ وتصويرا له؛ تبشيعا للفضيحة فيه؛ بحضرة الخلق أجمعين؛ وزاد في تعظيمه؛ وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي؛ وتضعيف الفعل؛ فقال - معمما الحكم؛ ليدخل الغلول من باب الأولى -: ثم توفى ؛ أي: في ذلك اليوم العظيم؛ وبناه للمجهول؛ إظهارا لعظمته؛ على طريق كلام القادرين؛ كل نفس ؛ أي: غالة؛ وغير غالة؛ ما كسبت ؛ أي: ما لها فيه فعل ما؛ من خير؛ أو شر؛ وافيا؛ مبالغا في تحريز وفائه؛ وهم لا يظلمون ؛ أي: لا يقع عليهم ظلم في شيء منه؛ بزيادة؛ ولا نقص.