ولما كان الأغلب على هذه المقامات التحذير؛ قدم في هذه التوفية حال أهل الغضب؛ فقال: وسيق ؛ أي: بأمر يسير من قبلنا؛ بعد إقامة الحساب؛ سوقا عنيفا؛ الذين كفروا ؛ أي: غطوا أنوار عقولهم؛ فالتبست عليهم الأمور؛ فضلوا؛ إلى جهنم ؛ أي: الدركة التي تلقاهم بالعبوسة؛ كما تلقوا الأوامر؛ والنواهي؛ والقائمين بها؛ بمثل ذلك؛ فإن ذلك لازم لتغطية العقل؛ زمرا ؛ أي: جماعات؛ في تفرقة؛ [ ص: 565 ] بعضهم على أثر بعض - قاله أبو عبيد - أصنافا مصنفين؛ كل شخص مع من يلائمه في الطريقة؛ والزمرة؛ مأخوذة من "الزمر"؛ وهو صوت فيه التباس؛ كالزمر المعروف؛ لأن ذلك الصوت من لازم الجمع.
ولما كان إغلاق الباب المقصود عن قاصده دالا على صغاره؛ دل على أن أمرهم كذلك؛ بقوله - ذاكرا غاية السوق -: حتى إذا جاءوها ؛ أي: على صفة الذل؛ والصغار؛ وأجاب "إذا"؛ بقوله: فتحت أبوابها ؛ أي: بولغ - كما يفعل في أبواب السجن لأهل الجرائم؛ بعد تكاملهم عندها - في الإسراع في فتحها؛ ليخرج إليهم ما كان محبوسا بإغلاقها من الحرارة التي يلقاهم ذكاؤها؛ وشرارها؛ على حالة هي أمر من لقاء السهام التي اختاروها في الدنيا على تقبل ما خالف أهويتهم من حسن الكلام.
ولما كان المصاب ربما رجا الرحمة؛ فإذا وجد من يبكته كان تبكيته أشد عليه مما هو فيه؛ قال: وقال لهم خزنتها ؛ إنكارا عليهم؛ وتقريعا؛ وتوبيخا؛ ألم يأتكم رسل ؛ ولما كان قيام الحجة بالمجانس أقوى؛ قال - واصفا لـ "رسل" -: منكم ؛ أي: لتسهل عليكم مراجعتهم.
ولما كانت المتابعة بالتذكير أوقع في النفس؛ قال - آتيا بصفة أخرى؛ معبرا بالتلاوة؛ التي هي أنسب لما يدور عليه مقصد السورة من العبادة؛ لما للنفوس من النقائص الفقيرة إلى متابعة التذكير -: يتلون ؛ أي: يوالون؛ عليكم آيات ؛ ولما كان أمر المحسن أخف على النفس [ ص: 566 ] فيكون أدعى إلى القبول؛ قالوا: ربكم ؛ أي: بالبشارة إن تابعتم؛ ولما كان الإنذار أبلغ في الزجر؛ قالوا: وينذرونكم لقاء يومكم ؛ ولما كانت الإشارة أعلى في التشخيص؛ قالوا: هذا ؛ إشارة إلى يوم البعث كله؛ أي: من الملك الجبار؛ إن نازعتم؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الرب أولا؛ دلالة على حذف الجبروت ثانيا؛ والإنذار ثانيا؛ دليلا على البشارة أولا؛ قالوا بلى ؛ أي: قد أتونا؛ وتلوا علينا؛ وحذرونا.
ولما كان عدم إقبالهم على الخلاص مما وقعوا فيه؛ مع كونه يسيرا؛ من أعجب العجب؛ بينوا موجبه بقولهم: ولكن حقت ؛ أي: وجبت وجوبا يطابقه الواقع؛ لا يقدر معه على الانفكاك عنه؛ كلمة العذاب ؛ أي: التي سبقت في الأزل علينا؛ هكذا كان الأصل؛ ولكنهم قالوا: على الكافرين ؛ تخصيصا بأهل هذا الوصف؛ وبيانا لأنه موجب دخولهم؛ وهو تغطيتهم للأنوار التي أتتهم بها الرسل.