ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة؛ والرهبة؛ وهم يعلمون أنه - صلى الله عليه وسلم - أقواهم قلبا؛ وأصفاهم لبا؛ وأجرؤهم نفسا؛ وأصدقهم؛ وأشجعهم عشيرة وحزبا؛ كان خوف غيره من باب الأولى؛ فسبب عنه تهديدهم أعظم تهديد؛ بقوله: فاعبدوا ؛ أي: أنتم أيها الداعون له في وقت الضراء؛ المعرضون عنه في وقت الرخاء؛ ما شئتم ؛ أي: من جماد؛ أو غيره؛ ونبه على سفول رتبة كل شيء بالنسبة إليه - سبحانه - تسفيها لمن يلتفت إلى سواه؛ بقوله: من دونه ؛ فإن عبادة ما دونه تؤدي إلى قطع إحسانه؛ ولا إحسان إلا إحسانه؛ فإذا انقطع حصل كل سوء؛ وفي ذلك جميع الخسارة.
ولما كانوا يدعون الذكاء؛ ويفعلون ما لا يفعله عاقل؛ أمره أن يقول لهم ما ينبههم على غباوتهم؛ بما يصيرون إليه من شقاوتهم؛ فقال: [ ص: 476 ] قل إن الخاسرين ؛ أي: الذين خسارتهم هي الخسارة؛ لكونها النهاية في العطب؛ الذين خسروا أنفسهم ؛ أي: بدخولهم النار؛ التي هي معدن الهلاك؛ لعبادتهم غير الله من كل ما يوجب الطغيان؛ ولما كان أعز ما على الإنسان بعد نفسه أهله؛ الذين عزه بهم؛ قال: وأهليهم ؛ أي: لأنهم إن كانوا مثلهم؛ فحالهم في الخسارة كحالهم؛ ولا يمكن أحدا منهم أن يواسي صاحبه بوجه؛ فإنه لكل منهم شأن يغنيه؛ وإن كانوا ناجين فلا اجتماع بينهم.
ولما كانت العاقبة هي المقصودة بالذات؛ قال: يوم القيامة ؛ لأن ذلك اليوم هو الفيصل؛ لا يمكن لما فات فيه تدارك أصلا؛ ولما كان في ذلك غاية الهول؛ كرر التعريف بغباوتهم؛ تنبيها على رسوخهم في ذلك الوصف؛ على طريق النتيجة لما أفهمه ما قبله؛ فقال - مناديا؛ لأنه أهول؛ مبالغا بالاستئناف؛ وحرف التنبيه؛ وضمير الفصل؛ وتعريف الخبر؛ ووصفه -: ألا ذلك ؛ أي: الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة جدا؛ هو ؛ أي: وحده؛ الخسران ؛ أتى بصيغة "الفعلان"؛ المفهم مطلقا للمبالغة؛ فكيف إذا بنيت على الضم؛ الذي هو أثقل الحركات؟! وزاد في تقريعهم بالغباوة؛ بقوله: المبين