[ ص: 81 ] سورة "يـس"
وتسمى "القلب"؛ و"الدافعة"؛ و"القاضية"؛ و"المعمة"
إثبات الرسالة التي هي روح الوجود؛ وقلب جميع الحقائق؛ وبها قوامه؛ وصلاحها للمرسل بها؛ الذي هو خالصة المرسلين؛ الذين هم قلب الموجودات كلها؛ ذوات ومعاني؛ إلى أهل مقصودها مكة؛ أم القرى؛ وقلب الأرض؛ وهم قريش؛ قلب العرب؛ الذين هم قلب الناس؛ بصلاحهم صلاحهم كلهم؛ وبفسادهم فسادهم؛ فلذلك كان من حولهم جميع أهل الأرض؛ وجل فائدة الرسالة إثبات الوحدانية؛ التي هي قلب الاعتقاد؛ وخالصه؛ وعموده؛ للعزيز الرحيم؛ ذي الجلال والإكرام؛ وإنذار يوم الجمع؛ الذي به - مع ستره عن العيان؛ الذي هو من خواص القلب - صلاح الخلق؛ فهو قلب الأكوان؛ وبه الصلاح؛ أو الفساد للإنسان؛ وعلى ذلك تنطبق معاني أسمائها: "يـس"؛ و"القلب"؛ و"الدافعة"؛ و"القاضية"؛ [ ص: 82 ] و"المعمة"؛ وأما "يـس"؛ فسيأتي بيانه؛ من جهة إشارته إلى سر كونها قلبا؛ المشير إلى البعث؛ الذي هو من أجل مقاصدها؛ الذي به يكون صلاح القلب؛ الذي به يكون قبول ما ذكر؛ وأما الباقي فإن من اعتقد الرسالة كفته؛ ودفعت عنه جميع مهمه؛ وقضت له بكل خير؛ وأعطته كل مراد؛ وكل منها له أتم نظر إلى القلب؛ كما لا يخفى؛ و"المعمة": الشاملة بالخير والبركة؛ قال في القاموس: يقال: "عمهم بالعطية"؛ و"هو معم خير يعم خيره"؛ فقد لاح أن هذه السورة الشريفة؛ لما كانت قلبا؛ كان كل شيء فيها له نظر عميق إلى القلبية؛ " بسم الله " ؛ الذي جل ملكه عن أن يحاط بمقداره؛ " الرحمن " ؛ الذي جعل الإنذار بيوم الجمع رحمة عامة " الرحيم " ؛ الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه.
لما كان قلب كل شيء أبطن ما فيه؛ وأنفس؛ وكان قلب الإنسان غائبا عن الإحساس؛ وكان مودعا من المعاني الجليلة والإدراكات الخفية؛ والجلية؛ ما يكون للبدن سببا في إصلاحه؛ أو إفساده؛ من إشقائه أو إبقائه؛ وكانت الساعة من عالم الغيب؛ وفيها يكون انكشاف الأمور؛ والوقوف على حقائق المقدور؛ وبملاحظتها [ ص: 83 ] في إصلاح أسبابها تكون السعادة الأبدية؛ وبالإعراض عنها وإفساد أسبابها تكون الشقاوة السرمدية؛ وكانت قد بينت في هذه السورة بيانا لم يكن في غيرها؛ بما وقع من التصريح في قلبها؛ الذي هو وسطها؛ بنفختها المميتة لكل من على الأرض؛ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون الباعثة فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون والتصريح بالمعاد الجسماني؛ والاستدلال عليه بالدليل؛ الذي نقل أن - الذي وسم بأنه المعلم الثاني - كان يقول: وددت أن هذا العالم الرباني - يشير إلى المعلم الأول أبا نصر الفارابي "أرسطو"؛ وقف على هذا القياس؛ أن يقال: الله أنشأ العظام وأحياها أول مرة؛ وكل من أنشأ أول مرة؛ وكل من أنشأ شيئا وأحياه أول مرة؛ فهو قادر على إنشائه وإحيائه ثاني مرة؛ ينتج أن فاختصت بذلك عن باقي القرآن؛ كانت قلبا له؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الله قادر على إنشاء العظام؛ وإحيائها؛ بعد فنائها؛ ؛ عن الترمذي - رضي الله عنه -: "لكل شيء قلب؛ وقلب [ ص: 84 ] القرآن يـس"؛ ورواه أنس - وهذا لفظه - والإمام أبو يعلى الموصلي ؛ في مسنديهما؛ عن أحمد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: معقل بن يسار لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له؛ اقرؤوها على موتاكم"؛ "يـس قلب القرآن؛ قال شيخنا الحافظ شهاب الدين البوصيري: وله شاهد من حديث - رضي الله عنه -؛ رواه أبي هريرة في مسنده؛ هذا ما هداني الله إليه؛ وله الحمد من بيان السر في كونها قلبا؛ ثم رأيت البزار البرهان النسفي قال في تفسيره؛ الذي هو مختصر التفسير الكبير للإمام الرازي؛ في آخر السورة؛ بعد أن ذكر الحديث: قال فيه: إن ذلك - أي: كونها قلبا - لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر؛ والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه؛ فجعلت قلب القرآن لذلك؛ واستحسنه الإمام المدقق المحقق الغزالي فخر الدين الرازي؛ ويمكن أن يقال: إن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة؛ الوحدانية؛ والرسالة؛ والحشر؛ بأقوى البراهين؛ فابتدأها ببيان الرسالة بقوله: إنك لمن المرسلين ودليله ما قدمه عليها بقوله: والقرآن الحكيم وما أخبره عنها بقوله: لتنذر قوما وأنهاها ببيان الوحدانية؛ والحشر؛ بقوله: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء إشارة إلى التوحيد؛ وقوله: وإليه ترجعون إشارة إلى الحشر؛ [ ص: 85 ] وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة؛ ودلائلها؛ ومن حصل من القرآن هذا القدر فقد حصل نصيب قلبه؛ وهو التصديق؛ الذي بالجنان؛ وأما الذي باللسان؛ والذي بالأركان؛ ففي غير هذه السورة؛ فلما كان فيها أعمال القلب لا غير؛ سماها "قلبا" ولهذا ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - قراءتها عند رأس من دنا منه الموت؛ لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة؛ والأعضاء الظاهرة ساقطة المنة؛ لكن القلب يكون قد أقبل على الله؛ ورجع عن كل ما سواه؛ فيقرأ عند رأسه ما يزداد به قوة في قلبه؛ ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة؛ انتهى؛ وفيه بعض تصرف؛ وقوله: "إن وظيفة اللسان والأركان ليس في هذه السورة منها شيء"؛ ربما يعكر عليه قوله (تعالى): وما لي لا أعبد الذي فطرني وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم والحديث الذي ذكره رواه ؛ أحمد ؛ وأبو داود ؛ والنسائي ؛ وابن ماجة ؛ وابن حبان ؛ عن والحاكم - رضي الله عنه - رفعه: معقل بن يسار وأعله "اقرؤوا يـس على موتاكم"؛ ابن القطان؛ وضعفه ؛ وأسند صاحب الفردوس عن الدارقطني ؛ أبي الدرداء - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: وأبي ذر ورواه "ما من ميت يموت فيقرأ عنده يـس إلا هون الله [ ص: 86 ] عليه"؛ ؛ أبو الشيخ ؛ في فضائل القرآن؛ عن ابن حبان وحده - رضي اللـه عنه -؛ والإمام أبي ذر ؛ في مسنده؛ عن أحمد صفوان بن عمرو قال: كانت المشيخة يقولون: قال إذا قرئت "يـس" عند الميت خفف عنه بها؛ : المراد المحتضر؛ واستمد من هذا التصريح بالحشر كل ما انبث في القرآن من ذكر الآخرة؛ الذي بمراعاته وإتقانه يكون صلاح جميع الأحوال في الدارين؛ وبإهماله ونسيانه يكون فسادها فيهما - هذا مع ما شاركت به غيرها مما جمعته من جميع معانيه المجموعة في "الفاتحة"؛ من الأسماء الحسنى؛ "الله"؛ و"الرب"؛ و"الرحمن"؛ و"الرحيم"؛ و" مالك يوم الدين"؛ "الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون"؛ والأمر بالعبادة بسلوك الصراط المستقيم؛ وتفصيل أهل النعيم؛ وأهل الجحيم؛ وإثبات الأصول الثلاثة؛ التي يصير بها المكلف مؤمنا؛ الوحدانية؛ والحشر؛ والرسالة؛ التي هي قلب الوجود؛ وبها صلاحه؛ وهي ممدة لكل روح يكون به حياة هنيئة؛ وهي مبدأ الصلاح كما أن البعث غايته؛ وأن الخاتم لها إنسان عين الموجودات وقلبها؛ فأثبت له ذلك على أصرح وجه وآكده؛ [ ص: 87 ] ومع جمع ما افتتحت به السورة من الحروف المقطعة المنثورة أول السورة عمادا للقرآن؛ وشحذا للأذهان؛ لصنفي المنقوطة والعاطلة ووصفي المجهورة والمهموسة. ابن حبان
ولما كان القلب من الإنسان المقصود بالذات من الأكوان؛ في نحو ثلث بدنه من جهة رأسه؛ وكانت الياء في نحو ذلك من حروف "أبـجـد"؛ فإنها العاشرة منها؛ والسين بذلك المحل من حروف "أ ب ت ث"؛ فإنها الثانية عشرة منها؛ وعلا هذان الحرفان - بما فيهما من الجهر - عن غاية الضعف؛ ونزلا بما لهما من الهمس عن نهاية الشدة؛ إشارة إلى أن القلب الصحيح هو الزجاجي الشفاف؛ الجامع بين الصلابة؛ والرقة؛ الذي علا بصلابته عن رقة الماء الذي لا يثبت فيه صورة؛ ونزل بلطافته عن قساوة الحجر؛ الذي لا يكاد ينطبع فيه شيء إلا بغاية الجهد؛ فكان جامعا بين الصلابة والرقة؛ متهيئا لأن تنطبع فيه الصور؛ وتثبت؛ ليكون قابلا مفيدا؛ فيكون متخلفا من صفات موجدة بالقدرة؛ والاختيار؛ اللذين دلت عليهما سورة "الملائكة"؛ وبمعرفة الخير فيجتلبه؛ والشر فيجتنبه؛ فيكون فيه شاهد من نفسه على الاعتقاد الحق في صانعه؛ وكانت المجهورة [ ص: 88 ] أقوى؛ فقدمت الياء لجهرها؛ وكانتا - بعد اختلاف بالجهر؛ والهمس - قد اتفقتا في الانفتاح؛ والرخاوة؛ والاستفال؛ إشارة إلى أن القلب لا يصلح - كما تقدم - مع الصلابة؛ التي هي في معنى الجهر؛ إلا بالإخبات؛ الذي هو في معنى الهمس؛ وبالنزول عن غاية الصلابة إلى حد الرخاوة؛ لئلا يكون حجريا قاسيا؛ بأن يكون فيه انفتاح؛ ليكون مفيدا؛ وقابلا؛ ويكون مستفلا؛ ليكون إلى ربه بتواضعه واصلا؛ وزادت السين بالصفير؛ الذي فيه شدة؛ وانتشار؛ وقوة؛ لضعفها عن الياء بالهمس؛ فتعادلتا؛ ودل صفيرها على النفخ في الصور؛ الذي صرحت به هذه السورة؛ ودل جهر الياء على قوته؛ ودل كونها من حروف النداء على خروجه عن الحد في الشده؛ حتى تبدو عنه تلك الآثار المخلية للديار؛ المنفية للصغار؛ والكبار؛ ثم الباغتة لهم من جميع الأقطار؛ امتثالا لأمر الواحد القهار؛ وكان مخرجهما من اللسان؛ الذي هو قلب المخارج الثلاثة؛ لتوسطه؛ وكثرة منافعه في ذلك؛ وكانت الياء من وسطه؛ والسين من طرفه؛ وكان هذان المخرجان؛ مع كونهما وسطا؛ مدارا لأكثر الحروف؛ هذا مع ما لهما من الأسرار التي تدق عن تصور الأفكار؛ قال (تعالى): يس ؛ وإن كان المعنى: يا إنسان؛ فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها؛ [ ص: 89 ] وخالصها؛ وسرها؛ ولبابها؛ وإن أريد: يا سيد؛ فهو خلاصة من سادهم؛ وإن أريد: يا رجل؛ فهو خلاصة البشر؛ وإن أريد: يا محمد؛ فهو خالصة الرجال؛ الذين هم لباب البشر؛ الذين هم سر الأحياء الذين هم عين الموجودات فهو خلاصة الخلاصة؛ وخيار وعين القلب؛ وكأن من قال: معناه: محمد؛ نظر إلى الاتحاد في عدد اسمه - صلى الله عليه وسلم - بالجمل؛ بالنظر إلى اليمين في المشددة؛ وعدد "قلب"؛ وعدد اسمي الحرفين؛ ولا يخفى أن الهمزة في اسم الياء ألف ثانية؛ فمبلغ عدده اثنا عشر.