ولما بين بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده؛ أمر بذكر نعمته؛ بالاعتراف أنها منه؛ فإن الذكر يقود إلى الشكر؛ وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود؛ فقال: يا أيها الناس ؛ أي: الذين فيهم أهلية الاضطراب عامة؛ اذكروا ؛ بالقلب؛ واللسان؛ نعمت الله ؛ أي: الذي لا منعم في الحقيقة سواه؛ ولما كانت نعمه عامة غامرة من كل جانب؛ قال: عليكم ؛ أي: في دفع ما دفع من المحن؛ وصنع ما صنع من المنن؛ على ما تقدم في الفتح؛ والإمساك؛ لتشكروه؛ ولا تكفروه؛ والذي يخص أهل مكة بعدما شاركوا به الناس - إسكانهم الحرم؛ وحفظهم من جميع الأمم؛ وتشريفهم بالبيت؛ وذلك موجب لأن يكونوا أشكر الناس.
ولما أمر بذكر نعمته؛ أكد التعريف بأنها منه وحده؛ على وجه بين عزته وحكمته؛ فقال - منبها لمن غفل؛ وموبخا لمن جحد؛ ورادا على أهل القدر؛ الذين ادعوا أنهم يخلقون أفعالهم؛ ومنبها على نعمة الإيجاد الأول -: هل ؛ ولما كان الاستفهام بمعنى النفي؛ أكده بـ "من"؛ فقال: من خالق ؛ أي: للنعم؛ وغيرها؛ ولما كانت "من"؛ [ ص: 9 ] للتأكيد؛ فكان "خالق"؛ في موضع رفع؛ قرأ الجمهور قوله: غير الله ؛ بالرفع؛ وجره ؛ حمزة ؛ على اللفظ؛ وعبر بالجلالة؛ إشارة إلى أنه المختص بصفات الكمال. والكسائي
ولما كان الجواب قطعا: "لا"؛ بل هو الخالق وحده؛ قال - منبها على نعمة الإبقاء الأول -: يرزقكم ؛ أي: وحده؛ ولما كانت كثرة الرزق؛ كما هو مشاهد؛ مع وحدة المنبع؛ أدل على العظمة؛ قال: من السماء والأرض ؛ بالمطر؛ والنبات؛ وغيرهما؛ ولما بين أنه الرزاق وحده؛ انقطع أمل كل أحد من غيره؛ حتى من نفسه؛ فحصل الإخلاص؛ فتعين أنه - سبحانه - الإله؛ وحده؛ فقال: لا إله إلا هو ؛ فتسبب الإنكار على من عبد غيره؛ ظاهرا؛ أو باطنا؛ فقال: فأنى ؛ أي: فمن أي وجه؛ وكيف تؤفكون ؛ أي: تصرفون؛ وتقلبون عن وجه السداد في التوحيد؛ بهذه الوجوه الظاهرة؛ إلى الشرك؛ الذي لا وجه له.