ولما كان قد أخبره سبحانه - كما رواه وغيره عن البغوي عن سفيان بن عيينة علي ابن جدعان عن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - أن رضي الله عنها ستكون من أزواجه وأن زينب زيدا سيطلقها، وأخفى في نفسه ذلك تكرما وخشية من قالة الناس أنه يريد نكاح زوجة ابنه، وكان في إظهار ذلك أعلام من أعلام النبوة، وكان وأن لا يراعي غيره، ولا يلتفت إلى سواه وإن كان في ذلك خوف ذهاب النفس، فإنه كاف من أراد بعزته، ومتقن من أراد بحكمته، كما أخذ الله الميثاق [به] من النبيين كلهم ومن مبنى أمر الرسالة على إبلاغ الناس ما أعلم [الله] به أحبوه [ ص: 357 ] أو كرهوه، محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم صلى الله عليهم وسلم فكان من المعلوم [أن] التقدير: اذكر ما أخذنا منك ومن النبيين من الميثاق على إبلاغ كل شيء أخبرناكم به ولم ننهكم من إفشائه وما أخذنا على الخلق في كل من طاعتك ومعصيتك، عطف عليه قوله: وإذ تقول وذلك لأن الأكمل يعاتب على بعض الكمالات لعلو درجته عنها وتحليه بأكمل منها من باب "حسنات الأبرار سيئات المقربين" ، وبين شرفه بقوله: للذي أنعم الله أي الملك الذي له كل كمال عليه أي بالإسلام وتولي نبيه صلى الله عليه وسلم إياه بعد الإيجاد والتربية، وبين منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: وأنعمت عليه أي بالعتق والتبني حين استشارك في فراق زوجه الذي أخبرك الله أنه يفارقها وتصير زوجتك: أمسك عليك زوجك أي زينب واتق الله [أي] الذي له جميع العظمة في جميع أمرك لا سيما ما يتعلق بحقوقها ولا تغبنها بقولك: إنها تترفع علي - ونحو ذلك وتخفي أي والحال أنك تخفي، أي تقول له مخفيا في نفسك أي مما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عن [ ص: 358 ] طلاق زيد ما الله مبديه أي بحمل زيد على تطليقها وإن أمرته أنت بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها، وهو دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عن طلاق لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه لأنه لا يبدل القول لديه، روى زيد عن البخاري رضي الله عنه أن هذه الآيات نزلت في شأن أنس بن مالك زينب بنت جحش رضي الله عنهما. وزيد بن حارثة
ولما ذكر إخفاءه ذلك، ذكر علته فقال عاطفا على "تخفي" : وتخشى الناس أي [من] أن تخبر بما أخبرك الله به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لا سيما اليهود والمنافقون والله أي والحال أن الذي لا شيء أعظم منه أحق أن تخشاه أي وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئا أخبرك به لشيء يشق عليك حتى يفرق لك فيه أمر، قالت رضي الله عنها: عائشة لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية.
ولما علم من هذا أنه سبحانه أخبره بأن زيدا سيطلقها وأنها ستصير زوجا له من طلاق زيد إياها، سبب عنه قوله عاطفا عليه: فلما قضى زيد منها وطرا أي حاجة من زواجها والدخول بها، [ ص: 359 ] وذلك بانقضاء عدتها منه لأنه به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسها، وإلا لراجعها زوجناكها ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها، تشريفا لك ولها، بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس، ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، روى في صحيحه عن مسلم رضي الله عنه قال: أنس رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب [لزيد]: اذهب فاذكرها علي، فانطلق زيد رضي الله عنه حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قال: ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون زينب! فذكره، سيأتي. وقال لما انقضت عدة [ ص: 360 ] قال البغوي: الشعبي: كانت رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وأني أنكحنيك الله في السماء، وأن السفير زينب لجبريل عليه السلام.
ولما ذكر سبحانه التزويج على ما له من العظمة، ذكر علته [دالا على أن الأصل مشاركة الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام وأن لا خصوصية إلا بدليل] فقال: لكي لا يكون على المؤمنين أي الذين أزالت عراقتهم في الإيمان حظوظهم حرج أي ضيق في أزواج أدعيائهم أي الذين تبنوا بهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين [على الحقيقة] إذا قضوا منهن وطرا أي حاجة بالدخول بهن ثم الطلاق وانقضاء العدة.
ولما علم سبحانه أن ناسا يقولون في هذه الواقعة أقوالا شتى، دل على ما قاله زين العابدين بقوله: وكان أمر الله أي [من] الحكم بتزويجها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله به كراهية لسوء القالة واستحياء من ذلك، وكذا كل أمر يريده سبحانه مفعولا لأنه سبحانه له الأمر كله لا راد لأمره ولا معقب لحكمه.