ولما نكصوا عن المباهلة بعد أن أورد عليهم أنواع الحجج فانقطعوا، فلم تبق لهم شبهة وقبلوا الصغار والجزية، فعلم انحلالهم عما كانوا فيه من المحاجة ولم يبق إلا إظهار النتيجة، اقتضى ذلك عظم تشوفه صلى الله عليه وسلم إليها لعظم فأمره بأن يذكرها مكررا إرشادهم بطريق أخف مما مضى بأن يؤنسهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساة، فيدعو دعاء يشمل المحاجين من النصارى وغيرهم ممن له كتاب من اليهود وغيرهم إلى الكلمة التي قامت البراهين على حقيتها ونهضت الدلائل على صدقها، [ ص: 447 ] دعاء لا أعدل منه، على وجه يتضمن نفي ما قد يتخيل من إرادة التفضل عليهم والاختصاص بأمر دونهم، وذلك أنه بدأ بمباشرة ما دعاهم إليه ورضي لهم ما رضي لنفسه وما اجتمعت عليه الكتب واتفقت عليه الرسل فقال سبحانه وتعالى: حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق، قل ولما كان قد انتقل من طلب الإفحام خاطبهم تلطفا بهم بما يحبون فقال: يا أهل الكتاب إشارة إلى ما عندهم في ذلك من العلم تعالوا أي ارفعوا أنفسكم من حضيض الشرك الأصغر والأكبر الذي أنتم به إلى كلمة ثم وصفها بقوله: سواء أي ذات عدل لا شطط فيه بوجه بيننا وبينكم ثم فسرها بقوله: ألا نعبد إلا الله أي لأنه الحائز لصفات الكمال، وأكد ذلك بقوله: ولا نشرك به شيئا أي لا نعتقد له شريكا وإن لم نعبده.
ولما كان التوجه إلى غير الله خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى عبر بصيغة الافتعال فقال: ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا أي كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين يحلون ويحرمون. ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية نبه على [ ص: 448 ] أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد، والاجتراء على ما يختص به الله سبحانه وتعالى فقال: من دون الله الذي اختص بالكمال.
ولما زاحت الشكوك وانتفت العلل أمر بمصارحتهم بالخلاف في سياق ظاهره المتاركة وباطنه الإنذار الشديد المعاركة فقال - مسببا عن ذلك مشيرا بالتعبير بأداة الشك إلى أن الإعراض عن هذا العدل لا يكاد يكون: فإن تولوا أي عن الإسلام له في التوحيد فقولوا أنتم تبعا لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال: أسلمت لرب العالمين وامتثالا لوصيته إذ قال: ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون اشهدوا بأنا أي نحن مسلمون أي متصفون بالإسلام منقادون لأمره، فيوشك أن يأمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالكم لنصرته عليكم جريا على عادة الرسل، فنجيبه بما أجاب به الحواريون المشهدون بأنهم مسلمون، ثم نبارزكم متوجهين إليه معتمدين عليه، وأنتم تعرفون أيامه الماضية ووقائعه السالفة.