ولما كان هذا معنى يشاهده كل أحد في نفسه مع ما جلى سبحانه من عرائس الآيات الماضيات، فوصل الأمر في الوضوح إلى حد عظيم قال: وهو أي لا غيره الذي يبدأ الخلق أي على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال: ثم يعيده أي بعد أن يبيده.
ولما كان من المركوز في فطر جميع البشر أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه قال: وهو أي وذلك الذي ينكرونه من الإعادة أهون عليه خطابا لهم بما ألفوه وعقلوه ولذلك أخر الصلة [ ص: 77 ] لأنه لا معنى هنا للاختصاص الذي يفيده تقديمها.
ولما كان هذا إثما هو على طريق التمثيل لما يخفى عليهم بما هو جلي عندهم، وكل من الأمرين بالنسبة إلى قدرته [على حد سواء لا شيء في علمه أجلى من آخر، ولا في قدرته] أولى من الآخر، قال مشيرا إلى تنزيه نفسه المقدسة عما قد يتوهمه بعض الأغبياء من ذلك: وله أي وحده المثل الأعلى أي الذي تنزه عن كل شائبة نقص، واستولى على كل رتبة كمال، وهو أمره الذي أحاط بكل مقدور، فعلم به إحاطته هو سبحانه بكل معلوم، كما تقدم في البقرة في شرح المثل
ألا له الخلق والأمر
ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال: في السماوات والأرض اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما، وقد قالوا: إن المراد بالمثل هنا الصفة، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريبا لعقولنا، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم من ملوكنا فنقول: الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا: فلان جلس على سرير الملك، بمعنى: استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس، وإذا ذكر بطشه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى: يد الله فوق أيديهم إن بطش ربك لشديد مثلناه بما لو قهر [ ص: 78 ] سلطان أعداءه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا "محق سيفه أعداءه" فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته، وإذا قيل: تجري بأعيننا، ونحو ذلك علمنا أنه مثل ما نقول إذا رأينا ملكا حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا "هو في غاية اليقظة" فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم، وهذه تفاصيل مما قدمت أنه مثله، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريبا للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم، ولذلك قال تعالى: وهو أي وحده العزيز أي الذي إذا أراد شيئا كان له في غاية الانقياد كائنا ما كان الحكيم أي الذي إذا أراد شيئا أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء منه، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق وأكثر، فكان عدم هذا الموجود خيرا [ ص: 79 ] من وجوده وأحكم.