ولما تم ذلك كان كأنه قيل: قد جئناك بالأمر الواضح الذي لا يشكون فيه فإن حاجوك بعده في شيء مما تضمنه وهدى إليه ودل صريحا أو تلويحا عليه فاعلم أن جدالهم عن عناد مع العلم بحقيقة الحال فقل أي فأعرض عنهم إلى أن آمرك بالقتال، لأن من الواجبات - كما تقرر في آداب البحث - الإعراض عمن كابر في [ ص: 296 ] المحسوس، وقل أنت عملا بالآية السالفة: أسلمت وجهي أي أخلصت قصدي وتوجهي، وانقدت غاية الانقياد لله الملك الأعظم الذي له الأمر كله، فلا كفؤ له.
قال ولما أدرج تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته لقن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدرج من اتبعه في إسلامه وجهه لله ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم صلى الله عليه وسلم لا بإسلام أنفسهم، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة، وذلك حال الفرقة الناجية مؤثرة الفرق الاثنتين والسبعين التي قال النبي صلى الله عليه وسلم الحرالي: فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر، كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر: الله ورسوله أعلم، فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع بحسب استبداده. انتهى. فقال تعالى عاطفا على الضمير المرفوع المتصل لأجل الفعل: "وما أنا عليه" فيما أوتي من اليقين "وأصحابي" ومن أي وأسلم من اتبعن وجوههم له سبحانه وتعالى.
ولما كان المكمل لنفسه يجب عليه السعي في إكمال غيره أعلمه بذلك في قوله: وقل تهديدا وتعجيزا وتبكيتا وتقريعا [ ص: 297 ] للذين أوتوا الكتاب أي عامة من هؤلاء النصارى الذين يجادلونك ومن اليهود أيضا والأميين الذين لا كتاب لهم، مشيرا بالاستفهام إلى عنادهم منكرا عليهم موبخا لهم: أأسلمتم فإن أسلموا عند ذلك فقد اهتدوا فنفعوا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وفي صيغة "افتعلوا" ما يليح إلى أن الأنفس مائلة إلى الضلال زائغة عن طريق الكمال وإن تولوا أي عن الإسلام فهم معاندون فلا يهمنك أمرهم فإنما عليك البلاغ أي وعليهم وبال توليهم، وفي بنية التفعل ما يومئ إلى أن طرق الهدى بعد البيان آخذ محاسنها بمجامع القلوب، وأن الصادف عنها بعد ذلك قاهر لظاهر عقله وقويم فطرته الأولى برجاسة نفسه واعوجاج طبعه.
ولما كان التقدير: فالله يوفق لقبول البلاغ عنك من علم فيه الخير، وينكب عنه من علم فيه الشر، عطف عليه قوله: والله أي المحيط بكل شيء قدرة وعلما بصير بالعباد أي فهو يوفق من خلقه للخير منهم ويخذل غيره. لا يقدر على فعل ذلك غيره، ولا يقدر أحد غيره أن يفعل غير ذلك.