ولما لم يكن إنزالهما مستغرقا للماضي لأنه لم يكن في أول الزمان أدخل الجار معريا من التقيد بمن نزلا عليه لشهرته وعدم النزاع بخلاف القرآن من قبل أي من قبل هذا الوقت إنزالا انقضى [ ص: 210 ] أمره ومضى زمانه حال كون الكل هدى أي بيانا، ولذا عم فقال: للناس وأما في أول البقرة فبمعنى خلق الهداية في القلب، فلذا خص المتقين; والحاصل أن هذه الآية كالتعليل لآخر البقرة فكأنه قيل: كل آمن بالله لأنه متفرد بالألوهية، لأنه متفرد بالحياة، لأنه متفرد بالقيومية; وآمن برسله الذين جاؤوا بكتبه المنزلة بالحق من عنده بواسطة ملائكته.
ولما كانت مادة "فرق" للفصل عبر بالإنزال الذي لا يدل على التدريج لما تقدم من إرادة الترجمة بالإجمال والتفصيل على غاية الإيجاز لاقتضاء الإعجاز، وجمع الكتابين في إنزال واحد واستجد لكتابنا إنزالا تنبيها على [علو] رتبته عنهما بمقدار علو رتبة المتقين الذين هو هدى لهم، وبتقواهم يكون لهم فرقان على رتبة الناس الذين هما هدى لهم فقال تعالى: وأنـزل الفرقان أي الكتاب المصاحب للعز الذي يكسب صاحبه قوة التصرف فيما يريد من الفصل والوصل الذي هو وظيفة السادة المرجوع إليهم عند الملمات، المقترن بالمعجزات الفارقة بين الحق والباطل، وسترى هذا المعنى إن شاء [ ص: 211 ] الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال بأوضح من هذا; فعل ذلك لينفذ قائله أمر الكتاب المقرر فيه الشرع الحق المباين لجميع الملل الباطلة والأهواء المضلة والنحل الفاسدة، وذلك هو روح النصر على أعداء الله المرشد إلى الدعاء به ختام البقرة. قال فكان الفرقان جامعا لمنزل ظاهر التوراة ومنزل باطن الإنجيل جمعا يبدي ما وراء منزلهما بحكم استناده للتقوى التي هي تهيؤ لتنزل الكتاب الحرالي: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا فكان الفرقان أقرب الكتب للكتاب الجامع، فصار التنزيل في ثلاث رتب: رتبة الكتاب المنزل بالحق الجامع، ثم رتبة الفرقان المظهر لمحل الجمع بين الظاهر والباطن، ثم منزل التوراة والإنجيل [المختفي فيه موضع ظاهر التوراة بباطن الإنجيل] انتهى.
ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط وهي أدنى أسباب النماء كان [ ص: 212 ] وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت، وأن الخلق أخذ في النقصان، وهذا العالم أشرف على الزوال، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكان [هذا] النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقا، وكان مبعوثا مع نفس الساعة، وكان نزوله هو آخر الزمان علما على الساعة، وصدرت هذه السورة التي نزل كثير منها بسببه بالوحدانية إشارة إلى أن الوارث قد دنا زمان إرثه، وأن يكون ولا شيء معه كما كان، وأن الحين الذي يتمحض فيه تفرد الواحد قد حان، والآن الذي يقول فيه سبحانه له الملك اليوم قد آن; ويوضح ذلك أنه لما كان آدم عليه الصلاة والسلام مخلوقا من التراب الذي هو أمتن أسباب النماء، وهو غالب على كل ما جاوره، وكانت الأنثى مخلوقة من آدم الذي هو الذكر وهو أقوى سببي التناسل كان ذلك إشارة إلى كثرة الخلائق ونمائهم وازديادهم، فصدر أول سورة ذكر فيها خلقه وابتداء أمره بالكتاب إشارة إلى أن ما يشير إليه ذكره من تكثر الخلائق وانتشار الأمم والطوائف داع إلى إنزال الشرائع وإرسال الرسل بالأحكام والدلائل، فالمعنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما كان منه الابتداء [ ص: 213 ] وعيسى عليه الصلاة والسلام لما كان دليلا على الانتهاء اقتضت الحكمة أن يكون كل منهما مما كان منه، وأن تصدر سورة كل بما صدرت به والله سبحانه وتعالى الموفق. وقال ابن الزبير ما حاصله: إن اتصالها بسورة البقرة والله سبحانه وتعالى أعلم من جهات: إحداها ما تبين في صدر السورة مما [هو] إحالة على ما ضمن في سورة البقرة بأسرها، ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضا إلى أن الصراط المستقيم قد تبين شأنه لمن تقدم في كتبهم، فإن هذا الكتاب جاء مصدقا لما نزل ( نـزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، فهو بيان لحال الكتاب الذي هو هدى للمتقين، ولما بين إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنت بني إسرائيل وتوقفهم ما تقدم أخبر سبحانه وتعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة، وأنزل بعدها الإنجيل، وأن كل ذلك هدى لمن وفق، إعلاما منه سبحانه وتعالى لأمة افتراق الأمم بحسب السابقة محمد صلى الله عليه وسلم أن من تقدمهم قد بين لهم وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا والثالثة قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به نظير الاعتبار بآدم عليه الصلاة والسلام ولهذا أشار قوله سبحانه وتعالى إن مثل [ ص: 214 ] عيسى عند الله كمثل آدم انتهى.
ولما علم بذلك أمر القيوم سبحانه وتعالى بالحق وهو الإيمان علم أن لمخالفي أمره من أضداد المؤمنين الموصوفين وهم الكفرة المدعو بخذلانهم المنزل الفرقان لمحو أديانهم الويل والثبور، فاتصل بذلك بقوله: إن الذين كفروا أي غطوا ما دلتهم عليه الفطرة الأولى التي فطرهم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم ما بينت لهم الرسل عليهم الصلاة والسلام عنه سبحانه وتعالى من البيان الذي لا لبس معه بآيات الله المستجمع لصفات الكمال إقبالا منهم على ما ليس له أصلا صفة كمال، وهذا الكفر كما قال دون الحرالي الذي هو دون الكفر بالله، قال: [فكما] بدأ خطاب التنزيل من أعلاه نظم به ابتداء الكفر من أدناه انتهى. الكفر بأسماء الله لهم عذاب شديد كما تقتضيه صفتا العزة والنقمة، وفي وصفه بالشدة إيذان بأن من كفر دون هذا الكفر كان له مطلق عذاب. قال ففي إشعاره أن لمن داخله كفر ما حط بحسب خفاء ذلك الكفر، فأفصح الخطاب بالأشد وألاح بالأضعف. انتهى. [ ص: 215 ] والآية على تقدير سؤال ممن كأنه قال: ماذا يفعل بمن أعرض عن الكتب الموصوفة؟ أو يقال: إنه لما قال: الحرالي: وأنـزل الفرقان أي الفارق بين الحق والباطل من الآيات والأحكام عليك وعلى غيرك من الأنبياء لم يبق لأحد شبهة فقال: وأحسن من ذلك كله أنه سبحانه وتعالى ولما أنزل سورة البقرة على طولها في بيان أن الكتاب هدى للمتقين، وبين أن أول هذه وحدانيته وحياته وقيوميته الدالة على تمام العلم وشمول القدرة، فأنتج ذلك صدق ما أخبر به سبحانه وتعالى، أيد ذلك بالإعلام بأن ذلك الكتاب مع أنه هاد إليه حق، ودل على ذلك لمصادقته لما قبله من الكتب.
ولما ختم أوصافه بأنه فرقان لا يدع لبسا ولا شبهة أنتج ذلك قطعا أن الذين قدم أول تلك أنهم أصروا على الكفر به خاسرون، فأخبر سبحانه وتعالى بما أعد لهم من العذاب فقال: إن الذين مؤكدا مظهرا لما كان من حقه الإضمار، لولا إرادة تعليق الحكم بالوصف وهو الكفر أي الستر لما تفضل عليهم به من الآيات; ثم قرر قدرته على ما هدد به وعبر به فقال: عاطفا على ما أرشد السياق مع العطف على غير مذكور إلى أنه: فالله سبحانه وتعالى عالم بما له [ ص: 216 ] من القيومية بجميع أحوالهم: والله أي الملك العظيم مع كونه رقيبا عزيز لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ذو انتقام أي تسلط وبطش شديد بسطوة. قال فأظهر وصف العزة موصولا بما أدام من انتقامه بما يعرب عنه كلمة ذو المفصحة بمعنى صحبة ودوام، فكأن في إشعاره دواما لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر، وكان في طي إشعار الانتقام أحد قسمي إقامة القيومية في طرفي النقمة والرحمة، فتقابل هذان الخطابان إفصاحا وإفهاما من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحا فأفهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة، فإنه كما أنزل الكتب هدى أنزل متشابهها فتنة، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة انتهى. وما أحسن إطلاق [العذاب بعد ذكر الفرقان ليشمل الكون في الدنيا نصرة للمؤمنين استجابة لدعائهم، وفي الآخرة] تصديقا لقولهم وزيادة في سرورهم ونعيمهم، وتهديدا لمن ترك كثير من هذه السورة بسببهم وهم وفد نصارى الحرالي: نجران. يجادلون النبي في أمر عيسى عليه الصلاة [ ص: 217 ] والسلام، فتارة يقولون: هو الله، وتارة يقولون: هو ابن الله، وتارة يقولون، هو ثالث ثلاثة، وكان بعضهم عالما بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وبأن الذي بشر به هو هذا النبي العربي فقال له بعض أقاربه: فلم لا تتبعه وأنت تعلم أن عيسى أمر باتباعه؟ فقال له: لو اتبعناه لسلبنا ملك أحمد الروم جميع ما ترى من النعمة، وكان ملوك الروم قد أحبوهم لاجتهادهم في دينهم وعظموهم وسودوهم وخولوهم في النعم حتى عظمت رئاستهم وكثرت أموالهم على ما بين في السيرة الهشامية وغيرها، واستمر سبحانه وتعالى [يؤكد] استجابته لدعاء أوليائه بالنصرة آخر البقرة في نحو قوله:
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم قل للذين كفروا ستغلبون إلى أن ختم السورة بشرط الاستجابة فقال: اصبروا وصابروا