ولما كان قيام الأمور، وظهورها كل ظهور، إنما هو بالنور، حسا [ ص: 288 ] بالإيجاد، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها، قال تعالى دالا على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم، ومن أعراه من النور هلك: ألم تر أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علما هو في ثباته كما بالمشاهدة أن الله الحائز لصفات الكمال يسبح له أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة من في السماوات
ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال: والأرض أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله، أو آلة مقاله، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل، وعبر ب "من" لأن المخبر به من وظائف العقلاء.
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب، قال مخصصا: والطير صافات أي باسطات أجنحتها في جو السماء، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته.
[ ص: 289 ] ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال: ليله قائم، ونهاره صائم، ولا تزال تطلع على خائنة منهم وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال: كل أي من المخلوقات قد علم أي بما كان سببا له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال صلاته أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه وتسبيحه أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها، نيابة عن بيان مقالها، هذا بقيامه صامتا جامدا، وهذا بنموه مهتزا رابيا، إلجاء وقهرا، وهذا بحركته بالإرادة، وقصد وجوه منافعه، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته، وهذا بنطقه وعقله، ونباهته وفضله، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى في المسند عن الإمام أحمد رضي الله عنهما عن "النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو نوحا عليه السلام أوصى ابنه عند موته بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وقال أن [ ص: 290 ] في الإحياء: وروي" الغزالي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون" ، قال فقلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح، تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله من كل كلمة ملكا يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه"
قال الحافظ زين الدين العراقي : رواه المستغفري في الدعوات عن رضي الله عنهما وقال: غريب من حديث ابن عمر ، ولا أعرف له أصلا من حديث مالك ". مالك
ولما كان التقدير: فالله قدير على جميع تلك الشؤون، عطف عليه قوله: والله أي المحيط علما وقدرة عليم بما يفعلون بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم، وضمائركم وأفعالكم، وقد تقدم في الأعراف عند أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ما ينفع هنا.