ثم أمر بالنظر في عطائه هذا؛ على وجه مرغب في الآخرة؛ مزهد في الدنيا؛ فقال (تعالى) - آمرا بالاعتبار -: انظر ؛ وبين أن حالهم لغرابته أهل لأن يسأل عنه؛ فقال (تعالى): كيف فضلنا ؛ أي: بما لنا من العظمة القاهرة؛ بعضهم على بعض ؛ في هذه الحياة الدنيا بالعطاء؛ فصار الفاضل يسخر المفضول؛ والمفضول يرغب في خدمة المفضل؛ ويتشرف بالتقرب إليه؛ مع أن رزق الله - وهو عطاؤه - بالنسبة إلى الكل؛ على حد سواء؛ خلق ما هو موجود في هذه الدنيا للبر؛ والفاجر؛ وكل حريصون على أن يأخذوا فوق كفايتهم من الأرزاق التي هي أكثر منهم؛ فما كان هذا التفاضل إلا بقسر قادر قهرهم على ذلك؛ وهو من تنزه عن النقص؛ وحاز [ ص: 399 ] كل كمال؛ فاستحق ألا توجه رغبة راغب إلا إليه.
ولما نبه على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته؛ أخبر أن ما بعد الموت كله كذلك؛ من غير فارق؛ فقال: وللآخرة ؛ أكد الإخبار عما فيها؛ المستلزم لتأكيد الإعلام بوجودها لما لهم من إنكاره؛ أكبر درجات ؛ من هذه الحياة الدنيا؛ وأكبر تفضيلا ؛ أولا بالجنة؛ والنار؛ أنفسهما؛ وثانيا بالدرجات في الجنة؛ والدركات في النار; ولما كان العلم هنا مقيدا بالذنوب؛ ذكر بعد المفاضلة في الدنيا؛ ولعل في ذلك إشارة إلى أن أكثر من يزاد في الدنيا تكون زيادته نقصا من آخرته؛ بسبب ذنب اكتسبه؛ أو تقصير ارتكبه؛ ولما كان العلم فيما يأتي؛ في قوله (تعالى): وربك أعلم ؛ مطلقا؛ طوى بعده الرذائل؛ وعطف على ذلك المطوي الفضائل؛ فقال (تعالى): ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ؛ الآية؛ فمن كانت له نفس أبية؛ وهمة علية؛ كان عليه أن يزهد في علو فان؛ لأجل العلو الباقي.