ولما قنع فرعون في ذلك الوقت الذي بهرت قومه تلك المعجزة الظاهرة بالانفصال على هذا الوجه الذي لم يدع فيه حيلة إلا خيل بها، وخلص موسى عليه السلام بقومه متمكنا منهم بعض التمكن، وكان السياق [ ص: 34 ] لبيان أن أكثر الخلق فاسق، أخبر تعالى بما قال قوم فرعون بعد [ما] رأوا من المعجز القاهر دليلا على ذلك، فقال عاطفا على وألقي السحرة ساجدين وما بعده، أو على قول فرعون: وقال الملأ أي: الأشراف من قوم فرعون أي: ظانين أن فرعون متمكن مما يريد بموسى عليه السلام [من] الأذى منكرين لما وصل إليه الحال من أمر موسى عليه السلام حين فعل ما فعل وآمن به السحرة، وما عمل فرعون شيئا، لا قتله ولا حبسه؛ لأنه كان لا يقدر على ذلك ولا يعترف به لقومه أتذر موسى وقومه
ولما كان ما كان في أول مجلس من جديرا بأن يجر إليه أمثاله، سموه فسادا وجعلوه مقصودا لفرعون إحماء له واستغضابا فقالوا: إيمان السحرة ليفسدوا أي: يوقعوا الفساد وهو تغيير الدين في الأرض أي: التي هي الأرض كلها، وهي أرضنا هذه، أو الأرض كلها، لكون مثل هذا الفعل جديرا برد أهل الأرض كلهم عن عقائدهم ويذرك وآلهتك قيل: كان أمر قومه أن يعبدوا الأصنام تقربا إليه، وقال الإمام: الأقرب أنه كان دهريا منكرا لوجود الصانع، وكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأنه المخدوم في العالم للخلق أو لتلك الطائفة والمربي لهم; ثم قال: وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناما على صور الكواكب ويعبدها على ما هو دين عبدة الكواكب [انتهى]. ولذلك قال: أنا ربكم الأعلى هكذا قيل، [ ص: 35 ] وهو ظاهر عبارة التوراة الآتية في آية القمل، ولكن إرادته غير ملائمة لهذه المعادلة، بل الظاهر أنه كان سمى أمراءه آلهة، وسمى لكل أمير قوما يتألهونه أي: يطيعونه، فإنه نقل عنهم أنهم كانوا يسمون الحاكم بل والكبير إلها كما سيأتي عن عبارة التوراة، فحيث وقعت الموازنة بين موسى عليه السلام وقومه وبين فرعون وقومه، عبر بالآلهة تعظيما لجانبه بالإشارة إلى أنه إله أي: حاكم معبود، ليس وراءه منتهى وملؤه كلهم آلهة؛ أي: حكام دونه، وموسى عليه السلام ليس بإله ولا في قومه إله بل هم محكوم عليهم فهم ضعفاء فكيف يتركون! وحيث نفى الإلهية عن غيره فبالنظر إلى خطابه للملأ ما علمت لكم من إله غيري وحيث حشر الرعية ناداهم بقوله: أنا ربكم الأعلى وكأن ذلك كان يطلق على الحاكم مجازا، فجعلوه حقيقة وصاروا يفعلون ما يختص به الآلهة [من التحليل والتحريم كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ] فكفروا بادعاء الربوبية بمعنى العبودية، ونفي المعبود الحق بدليل آية " ما عملت " ، والحاصل أنهم عيروه بالرضى بأن يكون رئيسا على القبط وموسى عليه السلام [رئيسا] على بني إسرائيل فيكونوا بهذه المتاركة [ ص: 36 ] أكفاء للقبط.
ولما أعجزه الله سبحانه أن يفعل أكثر مما كان يعمل قبل مجيء موسى عليه السلام لما يراد به من الاستدراج إلى الهلاك، أخبر عنه سبحانه بما يفهم ذلك؛ فقال مستأنفا: قال أي: فرعون سنقتل أي: تقتيلا كثيرا أبناءهم أي: كما كنا نفعل ونستحيي نساءهم أي: نبقيهم أحياء إذلالا لهم وأمنا من غائلتهم في المستقبل وإنا فوقهم أي: الآن قاهرون ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظر لئلا تتوهم العامة أنه المولود الذي تحدث المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده فيثبطهم ذلك عن الطاعة، موهما بهذا أن تركه لأذى موسى عليه السلام لعدم التفاته إليه يعجزه شيء عنه.