باب قال الله تعالى : دفع الصدقات إلى صنف واحد إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية . فروى قال : حدثنا أبو داود الطيالسي أشعث بن سعيد عن عن عطاء عن سعيد بن جبير علي قالا : إذا أعطى الرجل الصدقة صنفا واحدا من الأصناف الثمانية أجزأه ، وروى مثل ذلك عن وابن عباس عمر بن الخطاب وحذيفة ، وعن سعيد بن جبير وإبراهيم ، وعمر بن عبد العزيز ، ولا يروى عن الصحابة خلافه ، فصار إجماعا من وأبي العالية السلف لا يسع أحدا خلافه لظهوره واستفاضته فيهم من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم .
وروى عن الثوري إبراهيم بن [ ص: 345 ] ميسرة عن عن طاوس : أنه كان يأخذ من أهل معاذ بن جبل اليمن العروض في الزكاة ويجعلها في صنف واحد من الناس ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر . وقال ومالك بن أنس : { تقسم على ثمانية أصناف إلا أن يفقد صنف فتقسم في الباقين لا يجزي غيره } وهذا قول مخالف لقول من قدمنا ذكره من الشافعي السلف ومخالف للآثار والسنن وظاهر الكتاب ، قال الله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وذلك عموم في جميع الصدقات ؛ لأنه اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه ، فاقتضت الآية دفع جميع الصدقات إلى صنف واحد من المذكورين ، وهم الفقراء ، فدل على أن مراد الله تعالى في ذكر الأصناف إنما هو بيان أسباب الفقر لا قسمتها على ثمانية ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وذلك يقتضي جواز إعطاء الصدقة هذين دون غيرهما ، وذلك ينفي وجوب قسمتها على ثمانية ، وأيضا فإن قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء عموم في سائر الصدقات ، وما يحصل منها في كل زمان ، وقوله تعالى : للفقراء إلى آخره عموم أيضا في سائر المذكورين من الموجودين ومن يحدث منهم .
ومعلوم أنه لم يرد قسمة كل ما يحصل من الصدقة في الموجودين ، ومن يحدث منهم لاستحالة إمكان ذلك إلى أن تقوم الساعة فوجب أن يجزي إعطاء صدقة عام واحد لصنف واحد ، وإعطاء صدقة عام ثان لصنف آخر ثم كذلك صدقة كل عام لصنف من الأصناف على ما يرى الإمام قسمته ، فثبت بذلك أن صدقة عام واحد أو رجل واحد غير مقسومة على ثمانية . وأيضا لا خلاف أن الفقراء لا يستحقونها بالشركة ، وأنه جائز أن يحرم البعض منهم ، ويعطى البعض فثبت أن المقصد صرفها في بعض المذكورين فوجب أن يجوز إعطاؤها بعض الأصناف كما جاز إعطاؤها بعض الفقراء ؛ لأن ذلك لو كان حقا لهم جميعا لما جاز حرمان البعض وإعطاء البعض .
قال : ويدل عليه ما روي في حديث أبو بكر سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ، ولم يجد ما يطعم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينطلق إلى صاحب صدقة بني زريق ليدفع إليه صدقاتهم ؛ فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم دفع صدقاتهم إلى سلمة ، وإنما هو من صنف واحد . وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار في الرجلين اللذين سألا النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، فرآهما جلدين فقال : ، ولم يسألهما من أي الأصناف هما ليحسبهما من الصنف ، ويدل على أنها مستحقة بالفقر قوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 346 ] إن شئتما أعطيتكما أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم ، وأردها في فقرائكم ، وقال حين بعثه إلى لمعاذ اليمن : أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد في فقرائهم ، فأخبر أن المعنى الذي به يستحق جميع الأصناف هو الفقر ؛ لأنه عم جميع الصدقة ، وأخبر أنها مصروفة إلى الفقراء ، وهذا اللفظ مع ما تضمن من الدلالة يدل على أن المعنى المستحق به الصدقة هو الفقر ، وأن عمومه يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم ، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : أمرت
فإن قيل : العامل يستحقه لا بالفقر . قيل له : لم يكونوا يأخذونها صدقة ، وإنما تحصل الصدقة للفقراء ثم يأخذها العامل عوضا من عمله لا صدقة ، كفقير تصدق عليه فأعطاها عوضا عن عمل عمل له ، وكما كان يتصدق على بريرة فتهديه للنبي صلى الله عليه وسلم هدية للنبي ، وصدقة لبريرة .
فإن قيل : فإن المؤلفة قلوبهم قد كانوا يأخذونها صدقة لا بالفقر قيل له : لم يكونوا يأخذونها صدقة ، وإنما كانت تحصل صدقة للفقراء فيدفع بعضها إلى المؤلفة قلوبهم لدفع أذيتهم عن فقراء المسلمين وليسلموا فيكونوا قوة لهم ، فلم يكونوا يأخذونها صدقة بل كانت تحصل صدقة فتصرف في مصالح المسلمين ، إذ كان مال الفقراء جائزا صرفه في بعض مصالحهم إذ كان الإمام يلي عليهم ، ويتصرف في مصالحهم .
فأما ذكر الأصناف فإنما جاء به لبيان أسباب الفقر على ما بينا ، والدليل عليه أن الغارم وابن السبيل ، والغازي لا يستحقونها إلا بالحاجة والفقر دون غيرهما ، فدل على أن المعنى الذي به يستحقونها هو الفقر .
فإن قيل : روى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول : قيل له : هذا يدل على صحة ما قلنا لأنه قال : " إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك " فبان أنها مستحقة لمن كان من أهل هذه الأجزاء ، وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب للصدائي بشيء من صدقة قومه ، ولم يسأله من أي الأصناف هو ، فدل ذلك على أن قوله : " إن الله تعالى جزأها ثمانية أجزاء " معناه ليوضع في كل جزء منها جميعا إن رأى ذلك الإمام ، ولا يخرجها عن جميعهم . أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم ، فقلت : أعطني من صدقاتهم ففعل ، وكتب لي بذلك كتابا ، فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل لم يرض بحكم نبي ، ولا غيره حتى حكم فيها من السماء فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها
وأيضا فليس تخلو الصدقة من أن تكون مستحقة بالاسم أو بالحاجة أو بهما [ ص: 347 ] جميعا ، وفاسد أن يقال هي مستحقة بمجرد الاسم لوجهين :
أحدهما : أنه يوجب أن يستحقها كل غارم ، وكل ابن سبيل ، وإن كان غنيا ، وهذا باطل .
والوجه الثاني : أنه كان يجب أن يكون لو اجتمع له الفقر ، وابن السبيل أن يستحق سهمين ، فلما بطل هذان الوجهان صح أنها مستحقة بالحاجة .
فإن قيل : قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ، يقتضي إيجاب الشركة ، فلا يجوز إخراج صنف منها ، كما لو أوصى بثلث ماله لزيد وعمرو وخالد لم يحرم واحد منهم . قيل له : هذا مقتضى اللفظ في جميع الصدقات ، وكذلك نقول ، فيعطي صدقة العام صنفا واحدا ، ويعطي صدقة عام آخر صنفا آخر على قدر اجتهاد الإمام ومجرى المصلحة فيه ، وإنما الخلاف بيننا وبينكم في صدقة واحدة هل يستحقها الأصناف كلها ، وليس في الآية بيان حكم صدقة واحدة ، وإنما فيها حكم الصدقات كلها ، فنقسم الصدقات كلها على ما ذكرنا فنكون قد وفينا الآية حقها من مقتضاها ، واستعملنا سائر الآي التي قدمنا ذكرها ، والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول السلف ، فذلك أولى من إيجاب قسمة صدقة واحدة على ثمانية ، ورد أحكام سائر الآي والسنن التي قدمنا . وبهذا المعنى الذي ذكرنا انفصلت الصدقات من الوصية بالثلث لأعيان ؛ لأن المسمين لهم محصورون ، وكذلك الثلث في مال معين فلا بد من أن يستحقوه بالشركة . وأيضا فلا خلاف أن الصدقات غير مستحقة على وجه الشركة للمسمين لاتفاقهم على جواز إعطاء بعض الفقراء دون بعض ، ولا جائز إخراج بعض الموصى لهم . وأيضا لما جاز التفضيل في الصدقات لبعض على بعض ، ولم يجز ذلك في الوصايا المطلقة ، كذلك جاز حرمان بعض الأصناف كما جاز حرمان بعض الفقراء ، ففارق الوصايا من هذا الوجه ، وأيضا لما كانت الصدقة حقا لله تعالى لا لآدمي بدلالة أنه لا مطالبة لآدمي يستحقها لنفسه ، فأي صنف أعطي فقد وضعها موضعها ، والوصية لأعيان حق لآدمي لا مطالبة لغيرهم بها ، فاستحقوها كلهم كسائر الحقوق التي للآدميين . ويدل على ذلك أن الله أوجب في الكفارة إطعام مساكين ، ولو أعطى الفقراء جاز ، فكذلك جائز أن يعطي ما سمى للمساكين في آية الصدقات للفقراء ، والوصية مخالفة لذلك لأنه لو أوصى لزيد لم يعط عمرو .