قوله تعالى : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك . قال : " معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به " ولم يرد أني لا أدفعك عن نفسي إذا قصدت قتلي ؛ فروي أنه قتله غيلة بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها . وروي عن ابن عباس الحسن أنه كتب عليهم إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه . قال ومجاهد : وجائز في العقل ورود العبادة بمثله ، فإن كان التأويل هو الأول فلا دلالة فيه على جواز ترك أبو بكر ، وإنما فيه أنه لا يبدأ بقتل غيره ؛ وإن كان التأويل هو الثاني فهو منسوخ لا محالة ، وجائز أن يكون نسخه بشريعة بعض الأنبياء المتقدمة ، وجائز أن يكون نسخه بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم . الدفع عن نفسه بقتل من أراد قتله
والذي يدل على أن هذا الحكم غير ثابت في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الواجب على من قصده إنسان بالقتل أن عليه قتله إذا أمكنه وأنه لا يسعه ترك قتله مع الإمكان ، قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر الله بقتال الفئة الباغية ، ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق ، فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق ؛ وقال تعالى : ولكم في القصاص حياة فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا ؛ لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله . وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره ؛ لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل .
وقال الله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فأمر بالقتال لنفي الفتنة ، ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق . وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع إسماعيل بن الفضل قال : حدثنا حسين بن حريث قال : حدثنا الفضل بن موسى عن عن معمر عن أبيه عن عبد الله بن طاوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار مستفيضة : من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر . من قتل دون نفسه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ، ومن قتل دون ماله فهو شهيد
وروى عبد الله بن الحسين عن عبد الرحمن الأعرج عن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من أريد ماله فقاتل فقتل فهو شهيد ، ولا يكون مقتولا دون ماله إلا وقد قاتل دونه ؛ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدافع عن نفسه وأهله وماله شهيد : أبي سعيد الخدري فأمر بتغيير المنكر [ ص: 46 ] باليد ، وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم خلافا أن رجلا لو من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذاك أضعف الإيمان أن على المسلمين قتله ، فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله ؛ وقد قتل شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق علي بن أبي طالب الخوارج حين قصدوا قتل الناس وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه موافقون له عليه . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار في وجوب قتلهم ، منها حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأنس في آثار كثيرة مشهورة ، وقد تلقتها سيكون في أمتي اختلاف وفرقة فيهم قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية طوبى لمن قتلهم أو قتلوه السلف بالقبول واستعملتها في وجوب قتلهم وقتالهم .
وروى قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبو الأحوص عن سماك قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال : وذهب قوم من قال رجل : يا رسول الله الرجل يأتيني يريد مالي ؟ قال : ذكره الله قال : فإن لم يذكر ؟ قال : استعن عليه من حولك من المسلمين قال : فإن لم يكن حولي منهم ؟ قال : فاستعن عليه السلطان قال : فإن نأى عني السلطان ؟ قال : قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة الحشوية إلى أن على من قصده إنسان بالقتل أن لا يقاتله ولا يدفعه عن نفسه حتى يقتله ، وتأولوا فيه هذه الآية . وقد بينا أنه ليس في الآية دلالة على أنه كف يده عن قتله حين قصده بالقتل ، وإنما الآية تدل على أنه لا يبدأ بالقتل على ما روي عن ، ولو ثبت حكم الآية على ما ادعوه لكان منسوخا بما ذكرنا من القرآن والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه وإن أتى على نفسه . ابن عباس
وتأولت هذه الطائفة التي ذكرنا قولها أحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : أبي موسى الأشعري . إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه
وروى علي بن زيد بن جدعان عن عن الحسن سعد بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة
وروى عن الحسن الأحنف بن قيس قال : سمعت يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبا بكر . إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قلت : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه
وروى عن معمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحسن إن ابني آدم ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما .
وروى [ ص: 47 ] عن معمر عن أبي عمران الجوني عبد الله بن الصامت عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي ذر إذا كان أبا ذر بالمدينة قتل ؟ قال : قلت : ألبس سلاحي ، قال : شاركت القوم إذا قال قلت : فكيف أصنع يا رسول الله ؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه . فاحتجوا بهذه الآثار ، ولا دلالة لهم فيها . فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : كيف بك يا فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلما على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة . إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : فإنما عنى به ترك إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة ، فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه بذلك . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : القتال في الفتنة وكف اليد عن الشبهة فإنما عنى به أن لا يبدأ بالقتل ، وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه . فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كن كخير ابني آدم فلا يجوز قتله قبل أن يقتل ، بقضية نفي النبي صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى ما ذكر ، وهذا لم يقتل بعد فلا يستحق القتل . لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير نفس
قيل له : هذا القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر ؛ لأنه أراد قتل غيره ، فإنما قتلناه بنفس من قصد لقتله لئلا يقتله فأحيينا نفس المقصود بقتلنا إياه ، ولو كان الأمر في ذلك على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما والإمساك عنه حتى يقتل من يريد قتله ، لوجب مثله في سائر المحظورات إذا أراد الفاجر ارتكابها من الزنا وأخذ المال أن نمسك عنه حتى يفعلها ، فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة ومحو آثار الشريعة ؛ وما أعلم مقالة أعظم ضررا على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة ، ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور المسلمين واستيلائهم على بلدانهم حتى تحكموا فحكموا فيها بغير حكم الله ، وقد جر ذلك ذهاب الثغور وغلبة العدو حين ركن الناس إلى هذه المقالة في ترك قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على الولاة والجوار والله المستعان .
ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلما يستحق القتل وأن على الناس كلهم أن يقتلوه ، قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فكان في [ ص: 48 ] مضمون الآية إباحة ، ومن أعظم الفساد قصد قتل النفس المحرمة ، فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه . قتل المفسد في الأرض
قال ذكر أبو بكر ابن رستم عن محمد عن أنه قال في أبي حنيفة : يسعك قتله ، لقوله صلى الله عليه وسلم : اللص ينقب البيوت ولا يكون شهيدا إلا هو مأمور بالقتال إن أمكنه فقد تضمن ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه . وقال أيضا في من قتل دون ماله فهو شهيد ، قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه " . قال رجل يريد قلع سنك : وذلك لأن أبو بكر أعظم من أخذ المال ، فإذا جاز قتله لحفظ ماله فهو أولى بجواز القتل من أجلها . قلع السن