قوله تعالى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود قال قتادة وعبيد بن عمير ومجاهد : " طهرا من الشرك وعبادة الأوثان التي كان عليها المشركون قبل أن يصير في يد وسعيد بن جبير إبراهيم عليه السلام " .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكة دخل المسجد فوجدهم قد نصبوا على البيت الأوثان فأمر بكسرها وجعل يطعن فيها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . وقيل فيه : طهراه من فرث ودم كان المشركون يطرحونه عنده وقال لما كان فتح : السدي طهرا بيتي ابنياه على الطهارة كما قال الله تعالى : أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير الآية .
قال : وجميع ما ذكر يحتمله اللفظ غير منافيه ، فيكون معناه : " ابنياه على تقوى الله وطهراه مع ذلك من الفرث والدم ومن الأوثان أن تجعل فيه أو تقربه " . وأما " الطائفين " فقد اختلف في مراد الآية منه ، فروى أبو بكر جويبر عن قال : " الطائفين " من جاء من الحجاج " والعاكفين " : أهل الضحاك مكة وهم القائمون .
وروى عبد الملك عن قال : " العاكفون " : من انتابه من أهل الأمصار والمجاورين " . وروى عطاء أبو بكر الهذلي قال : " إذا كان طائفا فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين ، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود " وروى ابن فضيل عن ، عن عطاء سعيد ، عن في قوله : ابن عباس طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود قال : " الطواف قبل الصلاة " .
قال : قول أبو بكر : من جاء من الحجاج فهو من الطائفين " راجع أيضا إلى معنى الطواف بالبيت ؛ لأن من يقصد البيت فإنما يقصده للطواف به ، إلا أنه قد خص به الغرباء ، وليس في الآية دلالة التخصيص ؛ لأن أهل الضحاك مكة والغرباء في فعل الطواف سواء .
فإن قيل : فإنما تأوله على الطائف الذي هو طارئ كقوله تعالى : [ ص: 94 ] الضحاك فطاف عليها طائف من ربك وقوله : إذا مسهم طائف من الشيطان قيل له : إنه وإن أراد ذلك فالطواف مراد لا محالة ؛ لأن الطارئ إنما يقصده للطواف فجعله هو خاصا في بعضهم دون بعض ، وهذا لا دلالة له فيه ، فالواجب إذا حمله على ، فيكون قوله : والعاكفين من يعتكف فيه ؛ وهذا يحتمل وجهين : فعل الطواف
أحدهما : الاعتكاف المذكور في قوله : وأنتم عاكفون في المساجد فخص البيت في هذا الموضع .
والوجه الآخر : المقيمون بمكة اللائذون به ، إذا كان الاعتكاف هو اللبث ، وقيل في العاكفين : المجاورون ، وقيل : أهل مكة ، وذلك كله يرجع إلى معنى اللبث والإقامة في الموضع .
قال : وهو على قول من تأول قوله الطائفين على الغرباء يدل على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ؛ وذلك ؛ لأن قوله ذلك قد أفاد لا محالة الطواف للغرباء ؛ إذ كانوا إنما يقصدونه للطواف ، وأفاد جواز الاعتكاف فيه بقوله أبو بكر والعاكفين وأفاد فعل الصلاة فيه أيضا وبحضرته ، فخص الغرباء بالطواف ، فدل على أن فعل الطواف للغرباء أفضل من فعل الصلاة والاعتكاف الذي هو لبث من غير طواف ، وقد روي عن ابن عباس ومجاهد : أن الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل وعطاء مكة أفضل ؛ فتضمنت الآية معاني ، منها : فعل الطواف في البيت وهو قربة إلى الله تعالى يستحق فاعله الثواب ، وأنه للغرباء أفضل من الصلاة وفعل الاعتكاف في البيت وبحضرته بقوله والعاكفين
وقد دل أيضا على جواز الصلاة في البيت فرضا كانت أو نفلا ؛ إذ لم تفرق الآية بين شيء منها ، وهو خلاف قول في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت . مالك
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في البيت يوم فتح مكة فتلك الصلاة لا محالة كانت تطوعا ؛ لأنه صلاها حين دخل ضحى ولم يكن وقت صلاة . وقد دل أيضا على جواز الجوار بمكة ؛ لأن قوله : والعاكفين يحتمله إذا كان اسما للبث ، وقد يكون ذلك من المجاز ؛ على أن وغيره قد تأوله على المجاورين ، ودل أيضا على أن الطواف قبل الصلاة لما تأوله عليه عطاء على ما قدمناه . ابن عباس
فإن قيل : ليس في تقديم الطواف على الصلاة في اللفظ دلالة على الترتيب ؛ لأن الواو لا توجبه ، قيل له : قد اقتضى اللفظ فعل الطواف والصلاة جميعا ، وإذا ثبت طواف مع صلاة فالطواف لا محالة مقدم عليها من وجهين :
أحدهما : فعل النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : اتفاق أهل العلم على تقديمه عليها . فإن اعترض معترض على ما ذكرنا من دلالة الآية على جواز فعل الصلاة في البيت ، وزعم أنه لا دلالة [ ص: 95 ] في اللفظ عليه ؛ لأنه لم يقل " والركع السجود في البيت " وكما لم يدل على جواز فعل الطواف في جوف البيت وإنما دل على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجها إليه قيل له : ظاهر قوله تعالى : طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود قد اقتضى فعل ذلك في البيت كما دل على جواز فعل الاعتكاف في البيت ، وإنما خرج منه الطواف في كونه مفعولا خارج البيت بدليل الاتفاق .
ولأن الطواف بالبيت إنما هو بأن يطوف حواليه خارجا منه ؛ ولا يسمى طائفا بالبيت من طاف في جوفه ؛ والله سبحانه إنما أمرنا بالطواف به لا بالطواف فيه بقوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق ومن صلى داخل البيت يتناوله الإطلاق بفعل الصلاة فيه وأيضا لو كان المراد التوجه إليه لما كان لذكر تطهير البيت للركع والسجود وجه ؛ إذ كان حاضرو البيت والناءون عنه سواء في الأمر بالتوجه إليه ، ومعلوم أن تطهيره إنما هو لحاضريه ، فدل على أنه لم يرد به التوجه إليه دون فعل الصلاة فيه ؛ ألا ترى أنه أمر بتطهير نفس البيت للركع السجود وأنت متى حملته على الصلاة خارجا كان التطهير لما حول البيت ؟ وأيضا إذا كان اللفظ محتملا للأمرين فالواجب حمله عليهما ، فيكونان جميعا مرادين ، فيجوز في البيت وخارجه .
فإن قيل : كما قال الله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق كذلك قال : فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وذلك يقتضي فعلها خارج البيت فيكون متوجها إلى شطره ، قيل له : لو حملت اللفظ على حقيقته فعلى قضيتك أنه لا تجوز الصلاة في المسجد الحرام ؛ لأنه قال : فول وجهك شطر المسجد الحرام ومتى كان فيه فعلى قولك لا يكون متوجها إليه فإن قال : أراد بالمسجد الحرام البيت نفسه ؛ لاتفاق الجميع على أن التوجه إلى المسجد الحرام لا يوجب جواز الصلاة إذا لم يكن متوجها إلى البيت .
قيل له : فمن كان في جوف البيت هو متوجه شطر البيت ؛ لأن شطره ناحيته ، ولا محالة أن من كان فيه فهو متوجه إلى ناحيته ؛ ألا ترى أن من كان خارج البيت فتوجه إليه فإنما يتوجه إلى ناحية منه دون جميعه .
وكذلك من كان في البيت فهو متوجه شطره ، ففعله مطابق لظاهر الآيتين جميعا من قوله تعالى : طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام إذ من كان في البيت فهو متوجه إلى ناحية من البيت ومن المسجد جميعا . قال : والذي تضمنته الآية من [ ص: 96 ] الطواف عام في سائر ما يطاف من الفرض والواجب والندب ؛ لأن الطواف عندنا على هذه الأنحاء الثلاثة ، فالفرض هو طواف الزيارة بقوله تعالى : أبو بكر وليطوفوا بالبيت العتيق والواجب هو طواف الصدر ، ووجوبه مأخوذ من السنة بقوله صلى الله عليه وسلم : والمسنون والمندوب إليه وليس بواجب طواف القدوم للحج فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف مكة حاجا ، فأما طواف الزيارة فإنه لا ينوب عنه شيء ، يبقى الحاج محرما من النساء حتى يطوفه ، وأما طواف الصدر فإن تركه يوجب دما إذا رجع الحاج إلى أهله ولم يطفه ، وأما طواف القدوم فإن تركه لا يوجب شيئا ؛ والله تعالى أعلم بالصواب .