باب الصيام في السفر قال الله تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر في هذه الآية دلالة واضحة على أن الإفطار في السفر رخصة يسر الله بها علينا ، ولو كان الإفطار فرضا لازما لزالت فائدة قوله : يريد الله بكم اليسر فدل على أن كقوله تعالى : المسافر مخير بين الإفطار وبين الصوم فاقرءوا ما تيسر من القرآن وقوله : فما استيسر من الهدي فكل موضع ذكر فيه اليسر ففيه الدلالة على التخيير .
وروى عبد الرحيم الجزري عن عن طاوس قال : " لا نعيب على من صام ولا على من أفطر ؛ لأن الله قال : ابن عباس يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فأخبر أن اليسر المذكور فيه أريد به التخيير ، فلولا احتمال الآية لما تأولها عليه . ابن عباس
وأيضا فقال الله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ثم عطف عليه قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فلم يوجب عليه الإفطار ولا الصوم ، والمسافر شاهد للشهر من وجهين :
أحدهما : العلم به وحضوره ، والآخر : أنه من أهل التكليف ، فهذا يدل على أنه من أهل الخطاب بصوم الشهر ، وأنه مع ذلك مرخص له في الإفطار .
وقوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر معناه : فأفطر فعدة من أيام أخر ، كقوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام المعنى : فحلق ففدية من صيام . ويدل على أن ذلك مضمر فيه اتفاق المسلمين على أن المريض متى صام أجزأه ولا قضاء عليه إلا أن يفطر ، فدل على أن الإفطار مضمر فيه .
وإذا كان كذلك فذلك الضمير بعينه هو مشروط للمسافر كهو للمريض لذكرهما جميعا في الآية على وجه العطف ، وإذا كان الإفطار مشروطا في إيجاب العدة فمن أوجب على المسافر القضاء إذا صام فقد خالف حكم الآية .
واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز صوم المسافر غير شيء يروى عن أنه قال : " من صام في السفر فعليه القضاء " وتابعه عليه شواذ من الناس لا يعدون خلافا . أبي هريرة
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض الموجب للعلم وثبت عنه أيضا إباحة الصوم في السفر ، منه حديث بأنه صام في السفر عن أبيه عن هشام بن عروة : أن عائشة حمزة بن عمرو الأسلمي وروى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أصوم في السفر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وسلمة بن [ ص: 266 ] المحبق صيام النبي صلى الله عليه وسلم في السفر .
واحتج من أبى جواز صوم المسافر وأوجب عليه القضاء بظاهر قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر قالوا : فالعدة واجبة في الحالين ؛ إذ ليس في الآية فرق بين الصائم والمفطر ، وبما روى كعب بن عاصم الأشعري وجابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وأبو هريرة ، وبما حدثنا ليس من البر الصيام في السفر قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع محمد بن عبد الله الحضرمي قال : حدثنا إبراهيم بن منذر الحزامي قال : حدثنا عبد الله بن موسى التيمي عن ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وبما روى الصائم في السفر كالمفطر في الحضر أنس بن مالك القشيري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع
فأما الآية فلا دلالة لهم فيها ، بل هي دالة على جواز صوم المسافر لما بيناه . وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فإنه كلام خرج عن حال مخصوصة ، فهو مقصور الحكم عليها ؛ وهي ما حدثنا ليس من البر الصيام في السفر محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا عن شعبة محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن : أن جابر بن عبد الله . رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه ، فقال : ليس من البر الصيام في السفر
فجائز أن يكون كل من روى ذلك فإنما حكى ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال ، وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم واقتصر على حكاية قوله صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر في حديثه أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان ، ثم إنه قال لهم : أبو سعيد الخدري فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا أبو سعيد : لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثني ابن وهب عن معاوية ربيعة بن يزيد ، أنه حدثه عن قزعة قال : سألت عن صيام رمضان في السفر ؛ وذكر الحديث . أبا سعيد الخدري
فذكر أيضا في هذا الحديث علة أمره بالإفطار ، وأنها كانت ؛ لأنه أقوى لهم على قتال عدوهم وذلك ؛ لأن الجهاد كان فرضا عليهم ولم يكن فعل الصوم في السفر فرضا ، فلم يكن جائزا لهم ترك الفرض لأجل الفضل . وأما حديث عن أبيه ، فإن أبي سلمة بن عبد الرحمن أبا سلمة ليس له سماع من أبيه ، فكيف يجوز ترك الأخبار المتواترة في جواز الصوم بحديث مقطوع لا يثبت عند كثير من [ ص: 267 ] الناس ؟ ومع ذلك فجائز أن يكون كلاما خرج على سبب وهو حال لزوم القتال ، مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم ، فكان حكمه مقصورا على تلك الحال ؛ لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولما يؤدي إليه من ترك الجهاد .
وأما قوله : فإنما يدلق على أن الفرض لم يتعين عليه لحضور الشهر ، وأن له أن يفطر فيه ، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع . إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع
وقال أصحابنا : " " وقال الصوم في السفر أفضل من الإفطار مالك : " الصوم في السفر أحب إلينا لمن قوي عليه " . وقال والثوري : " إن صام في السفر أجزأه " . ومما يدل على أن الصوم فيه أفضل قوله تعالى : الشافعي كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر إلى قوله : وأن تصوموا خير لكم وذلك عائد إلى جميع المذكور في الآية ، إذا كان الكلام معطوفا بعضه على بعض فلا يخص شيء منه إلا بدلالة ، فاقتضى ذلك أن يكون صوم المسافر خيرا له من الإفطار .
فإن قيل : هو عائد على ما يليه دون ما تقدمه ، وهو قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين
قيل له : كتب عليكم الصيام خطابا للجميع من المسافرين والمقيمين ، فواجب أن يكون قوله : وأن تصوموا خير لكم خطابا لجميع من شمله الخطاب في ابتداء الآية ، غير جائز الاقتصار به على البعض . وأيضا فقد ثبت جوازه عن الفرض بما قدمناه ، وما كان كذلك فهو من الخيرات ، وقال الله : فاستبقوا الخيرات ومدح قوما فقال : إنهم كانوا يسارعون في الخيرات فالمسارعة إلى فعل الخيرات وتقديمها أفضل من تأخيرها .
وأيضا فعل الفروض في أوقاتها أفضل من تأخيرها إلى غيرها . وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل الحج ، فكذلك ينبغي أن يكون سائر الفرائض المفعولة في وقتها أفضل من تأخيرها عن وقتها . وحدثنا من أراد أن يحج فليعجل محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود عقبة بن مكرم قال : حدثنا أبو قتيبة قال : حدثنا عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي قال : حدثني حبيب بن عبد الله قال : سمعت سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي يحدث عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وحدثنا من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود نصر بن المهاجر قال : حدثنا قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عبد الصمد بن حبيب [ ص: 268 ] قال : حدثني أبي عن سنان بن سلمة عن سلمة بن المحبق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أدركه رمضان في السفر . فذكر معناه .
فأمره بالصوم في السفر ، وهذا على وجه الدلالة على الأفضلية لا على جهة الإيجاب ؛ لأنه لا خلاف أن الصوم في السفر غير واجب عليه . وقد روى عثمان بن أبي العاص الثقفي : أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار ، والله أعلم . وأنس بن مالك