أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
(21) لما بين تعالى كمال اقتداره وعظمته، وخضوع كل شيء له، أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض، في غاية العجز وعدم القدرة هم ينشرون استفهام بمعنى النفي، أي: لا يقدرون على نشرهم وحشرهم، يفسرها قوله تعالى: واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون . (22) فالمشرك يعبد المخلوق، الذي لا ينفع ولا يضر، ويدع الإخلاص لله، الذي له الكمال كله وبيده الأمر والنفع والضر، وهذا من عدم توفيقه، وسوء حظه، وتوفر جهله، وشدة ظلمه، فإنه لا يصلح الوجود إلا على إله واحد، كما أنه لم يوجد إلا برب واحد، ولهذا قال: لو كان فيهما ؛ أي: في السماوات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا في ذاتهما، وفسد من فيهما من المخلوقات.
وبيان ذلك: أن العالم العلوي والسفلي - على ما يرى - في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام، الذي ما فيه خلل ولا عيب، ولا ممانعة، ولا معارضة، فدل ذلك، [ ص: 1061 ] على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد، فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك لاختل نظامه، وتقوضت أركانه؛ فإنهما يتمانعان ويتعارضان، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء وأراد الآخر عدمه فإنه محال وجود مرادهما معا، ووجود مراد أحدهما دون الآخر يدل على عجز الآخر وعدم اقتداره، واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن، فإذا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده، من غير ممانع ولا مدافع، هو الله الواحد القهار، ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ، ومنه - على أحد التأويلين - قوله تعالى: قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ولهذا قال هنا: فسبحان الله ؛ أي: تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده، رب العرش الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها وأعظمها، فربوبيته ما دونه من باب أولى، عما يصفون ؛ أي: الجاحدون الكافرون، من اتخاذ الولد والصاحبة، وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه.
(23) لا يسأل عما يفعل لعظمته وعزته وكمال قدرته، لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه، لا بقول ولا بفعل، ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها، وإتقانها أحسن شيء يقدره العقل، فلا يتوجه إليه سؤال؛ لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال، وهم ؛ أي: المخلوقون كلهم يسألون عن أفعالهم وأقوالهم؛ لعجزهم وفقرهم ولكونهم عبيدا، قد استحقت أفعالهم وحركاتهم، فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم ولا في غيرهم مثقال ذرة.
(24) ثم رجع إلى تهجين حال المشركين، وأنهم اتخذوا من دونه آلهة، فقل لهم موبخا ومقرعا: أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم ؛ أي: حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه، ولن يجدوا لذلك سبيلا، بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه، ولهذا قال: هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ؛ أي: قد فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء، بأدلته العقلية والنقلية، وهذه الكتب السابقة كلها براهين وأدلة لما قلت. اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم من إبطال الشرك،
ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا [ ص: 1062 ] إليه علم أنه لا برهان لهم؛ لأن البرهان القاطع يجزم أنه لا معارض له، وإلا لم يكن قطعيا، وإن وجد معارضات، فإنها شبه لا تغني من الحق شيئا.
وقوله: بل أكثرهم لا يعلمون الحق ؛ أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه؛ تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى، وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه، وإنما ذلك لإعراضهم عنه، وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا، ولهذا قال: فهم معرضون
(25) ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين، وأمر بالرجوع إليها في بيان هذه المسألة، بينها أتم تبيين في قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم زبدة رسالتهم، وأصلها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبيان أنه الإله الحق المعبود، وأن عبادة ما سواه باطلة.