يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير
(38) اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة، تبوك، إذ ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم، وكان الوقت حارا، والزاد قليلا والمعيشة عسرة، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتبهم الله تعالى عليه ويستنهضهم، فقال تعالى: نزلت في غزوة
يا أيها الذين آمنوا ألا تعملون بمقتضى الإيمان، ودواعي اليقين من المبادرة لأمر الله، والمسارعة إلى رضاه، وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم، فما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أي: [ ص: 653 ] تكاسلتم، وملتم إلى الأرض والدعة والسكون فيها.
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة أي: ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة، فكأنه ما آمن بها.
فما متاع الحياة الدنيا التي مالت بكم، وقدمتموها على الآخرة إلا قليل أفليس قد جعل الله لكم عقولا تزنون بها الأمور، وأيها أحق بالإيثار؟.
أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها- لا نسبة لها في الآخرة. فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى الحياة الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار، المشحونة بالأخطار.
فبأي رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، فوالله ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه، ولا من جزل رأيه، ولا من عد من أولي الألباب.
(39) ثم توعدهم على عدم النفير فقال: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما في الدنيا والآخرة، فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب، لما فيها من المضار الشديدة، فإن المتخلف، قد عصى الله تعالى وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين الله، ولا ذب عن كتاب الله وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحق دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل ربما فت في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء الله، فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده الله بالوعيد الشديد، فقال: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ولا تضروه شيئا فإنه تعالى متكفل بنصر دينه وإعلاء كلمته، فسواء امتثلتم لأمر الله، أو ألقيتموه، وراءكم ظهريا.
والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء أراده، ولا يغالبه أحد.