ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة تصريح بما أشعر به قوله عز وجل : " وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " ، من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوه من الآيات ، إثر بيان أنها في حكمه تعالى وقضائه المبني على الحكم البالغة ، لا مدخل لأحد في أمرها بوجه من الوجوه ، وبيان لكذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وآكده ; أي : ولو أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه ههنا من آية واحدة من الآيات ، بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة ، وقولهم : لو ما تأتينا بالملائكة .
وكلمهم الموتى وشهدوا بحقية الإيمان بعد أن أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم : فأتوا بآبائنا .
وحشرنا ; أي : جمعنا .
عليهم كل شيء قبلا بضمتين ، وقرئ بسكون الباء ; أي : كفلاء بصحة الأمر وصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنه جمع قبيل بمعنى : الكفيل ، كرغيف ورغف ، وقضيب وقضب ، وهو الأنسب بقوله تعالى : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ; أي : لو لم نقتصر على ما اقترحوه ، بل زدنا على ذلك بأن أحضرنا لديهم كل شيء يتأتى منه الكفالة ، والشهادة بما ذكر لا فرادى ، بل بطريق المعية ، أو جماعات على أنه جمع قبيل ، وهو الأوفق لعموم كل شيء ، وشموله للأنواع والأصناف ; أي : حشرنا كل شيء نوعا نوعا ، وصنفا صنفا ، وفوجا فوجا ، وانتصابه على الحالية ، وجمعيته باعتبار الكل المجموعي اللازم للكل الإفرادي ، أو مقابلة وعيانا على أنه مصدر كقبلا ، وقد قرئ كذلك .
وانتصابه على الوجهين على أنه مصدر في موقع الحال ، وقد نقل عن وجماعة من أهل اللغة : أن الأخير بمعنى : الجهة ، كما في قولك : لي قبل فلان حق ، وأن انتصابه على الظرفية . المبرد
ما كانوا ليؤمنوا ; أي : ما صح وما استقام لهم الإيمان ، لتماديهم في العصيان وغلوهم في التمرد والطغيان ، وأما سبق القضاء عليهم بالكفر ، فمن الأحكام المترتبة على ذلك ، حسبما ينبئ عنه قوله عز وجل : ونذرهم في طغيانهم يعمهون .
وقوله تعالى : إلا أن يشاء الله استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة ; أي : ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال الداعية إليه ، المتممة لموجباته المذكورة ، إلا في حال مشيئته تعالى لإيمانهم ، أو من أعم العلل ; أي : ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودة وغيرها ، إلا لمشيئته تعالى له ، وأيا ما كان فليس المراد بالاستثناء بيان أن إيمانهم على خطر الوقوع ، بناء على كون مشيئته [ ص: 175 ] تعالى أيضا كذلك ، بل بيان استحالة وقوعه بناء على استحالة وقوعها ، كأنه قيل : ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ، وهيهات ذلك وحالهم حالهم ، بدليل ما سبق من قوله تعالى : ونقلب أفئدتهم ... الآية .
كيف لا وقوله عز وجل : ولكن أكثرهم يجهلون استدراك من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء لا قبله ، ولا ريب في أن الذي يجهلونه سواء أريد بهم المسلمون وهو الظاهر ، أو المقسمون ليس عدم إيمانهم بلا مشيئة الله تعالى ، كما هو اللازم من حمل النظم الكريم على المعنى الأول ، فإنه ليس مما يعتقده الأولون ، ولا مما يدعيه الآخرون ، بل إنما هو عدم إيمانهم لعدم مشيئته إيمانهم ، ومرجعه إلى جهلهم بعدم مشيئته إياه ; فالمعنى : أن حالهم كما شرح ، ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم ; فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون .
فالجملة مقررة لمضمون قوله تعالى : " وما يشعركم ... " إلخ على القراءة المشهورة ، أو : ولكن أكثر المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات ، لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ ، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون .
فالجملة على القراءة السابقة بيان مبتدأ لمنشأ خطأ المقسمين ومناط إقسامهم ، وتقرير له على قراءة : ( لا تؤمنون ) بالتاء الفوقانية ، وكذا على قراءة : ( ما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون ) .