الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون
وقوله تعالى: الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ...إلخ، صفة كاشفة للمطففين شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الذم والدعاء بالويل، أي: إذا اكتالوا من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه يأخذونه وافيا وافرا، وتبديل كلمة "على" بـ"من" لتضمين الأكتيال معنى الاستيلاء، أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر بهم، لكن لا على اعتبار الضرر في حيز الشرط الذي يتضمنه كلمة "إذا" لإخلاله بالمعنى، بل في نفس الأمر بموجب الجواب، فإن المراد بالأستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص، بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه تيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل وتحريك المكيال واحتيال في ملئه، وأما ما قيل من أن ذلك للدلالة على أن اكتيالهم لما لهم على الناس، فمع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه، مع أنه الشائع فيما بينهم، يقتضي أن يكون معنى الأستيفاء أخذ ما لهم عليهم وافيا من غير نقص؛ إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق، فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم، وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون [ ص: 125 ] لهم عليهم، مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا، فإن اعتبار كون المكيل لهم حالأ كان أو مآلا، لا يستدعي كون الأستيفاء بالمعنى المذكور حتما، وهكذا حال ما نقل عن من أن "من" و"على" تعتقبان في هذا الموضع؛ لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك فإنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكقوله: استوفيت منك فتأمل، وقد جوز أن تكون "على" متعلقة بـ"يستوفون" ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها. الفراء
وأنت خبير بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به، فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الإفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام، ولا ريب في أن الأستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصور أن يكون على أنفسهم، حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه فتدبر.