[ ص: 185 ] يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
يا أيها الذين أوتوا الكتاب تلوين للخطاب وتوجيه له إما إلى من حكيت أحوالهم وأقوالهم خاصة بطريق الالتفات ، ووصفهم تارة بإيتاء الكتاب أي: التوراة وأخرى بإيتاء نصيب منها لتوفية كل من المقامين حقه، فإن المقصود فيما سبق بيان أخذهم الضلالة وإزالة ما أوتوه بمقابلتها بالتحريف وليس ما أزالوه بذلك كلها حتى يوصفوا بإيتائه بل هو بعضها فوصفوا بإيتائه، وأما ههنا فالمقصود تأكيد إيجاب الامتثال بالأمر الذي يعقبه والتحذير عن مخالفته من حيث أن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه والكفر بالثاني مقتض للكفر بالأول قطعا، ولا ريب في أن المحذور عندهم إنما هو لزوم الكفر بالتوراة نفسها لا ببعضها وذلك إنما يتحقق بجعل القرآن مصدقا لكلها وإن كان مناط التصديق بعضا منها ضرورة أن مصدق البعض مصدق للكل المتضمن له حتما وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبة وهو الأظهر، وأيا ما كان; فتفصيل ما فصل: لما كان من مظان إقلاع كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهداية مشفوعا بالوعيد الشديد على المخالفة فقيل: آمنوا بما نزلنا من القرآن، عبر عنه بالموصول تشريفا له بما في حيز الصلة وتحقيقا لكونه من عنده عز وجل. مصدقا لما معكم من التوراة، عبر عنها بذلك للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال فإن المعية المستدعية لدوام تلاوتها وتكرر المراجعة إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقا لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش، وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عين الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي". "لو كان من قبل أن نطمس وجوها متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال به والجد في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين، وفي تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصل الطمس محو الآثار وإزالة الأعلام، أي: آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها. قال رضي الله عنهما: نجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة. وقال ابن عباس قتادة نعميها كقوله تعالى: والضحاك: فطمسنا أعينهم . وقيل: نجعلها منابت الشعر كوجوه القردة. فنردها على أدبارها فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها، فالفاء للتسبيب أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع [ ص: 186 ] الأقفاء والأقفاء إلى موضعها، وقد اكتفي بذكر أشدهما فالفاء للتعقيب، وقيل: المراد بالوجوه: الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي: من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارا وأدبارا أو نردهم من حيث جاءوا منه وهي أذرعات الشام فالمراد بذلك: إجلاء بني النضير، ولا يخفى أنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد وتعميم التهديد للجميع فالوجه ما سبق من الوجوه، وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة; فقيل: كان بوقوعه في الدنيا، ويؤيده ما روي أن رضي الله تعالى عنه لما قدم من عبد الله ابن سلام الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي، وفي رواية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويده على وجهه وأسلم وقال ما قال، وكذا ما روي أن رضي الله عنه قرأ هذه الآية على عمر فقال كعب الأحبار يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ثم اختلفوا فقيل إنه منتظر بعد ولابد من طمس في اليهود ومسخ وهو قول كعب: وفيه أن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجد بعد مئات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العالمين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة الله تعالى العزيز الحكيم. وقيل: إن وقوعه كان مشروطا بعدم الإيمان وقد آمن من أحبارهم المذكوران وأضرابهما فلم يقع وفيه أن إسلام بعضهم إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم، وقيل: كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى: المبرد أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الثاني، كيف لا؟ وهم ملعونون بكل لسان في كل زمان وتفسير اللعن بالمسخ ليس بمقرر البتة. وأنت خبير بأن المتبادر من اللعن المشبه بلعن أصحاب السبت هو المسخ وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على عدم إرادة المسخ ضرورة أنه تغيير مغاير لما عطف عليه على أن المتوعد به لا بد أن يكون أمرا حادثا مترتبا على الوعيد محذورا عندهم ليكون مزجرة عن مخالفة الأمر ولم يعهد أنه وقع عليهم لعن بهذا الوصف إنما الواقع عليهم ما تداولته الألسنة من اللعن المستمر الذي ألفوه وهو بمعزل من صلاحية أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة للعنيد. وقيل: إنما كان الوعيد بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها لا محالة أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع، وأما ما روي عن عبد الله بن سلام فمبني على الاحتياط اللائق بشأنهما، والحق أن النظم الكريم ليس بنص في أحد الوجهين بل المتبادر منه بحسب المقام هو الأول لأنه أدخل في الزجر وعليه مبني ما روي عن وكعب الحبرين لكن لما لم يتضح وقوعه علم أن المراد هو الثاني والله تعالى أعلم. وأيا ما كان; فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات مراعاة المشاكلة بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والله هو العليم الخبير. وكان أمر الله أي: ما أمر به كائنا ما كان أو أمره بإيقاع شيء ما من الأشياء. مفعولا نافذا كائنا لا محالة فيدخل فيه ما أوعدتم به [ ص: 187 ] دخولا أوليا، فالجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية ما في الاعتراض من الاستقلال.