وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
وآتوا اليتامى أموالهم شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا عقيب الأمر بنفسه مرة بعد أخرى، وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام; إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب.
واليتيم من مات أبوه من اليتم وهو الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة، وجمعه على يتامى إما لأنه لما جرى مجرى الأسماء جمع على يتاتم ثم قلب فقيل يتامى، أو لأنه لما كان من وادي الآفات جمع على يتمى ثم جمع يتمى على يتامى، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الكبار أيضا واختصاصه بالصغار مبني على العرف. وأما قوله عليه السلام: فتعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ، أي: لا يجري على اليتيم بعده "لا يتم بعد الحلم" والمراد بإيتاء أموالهم: قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها وكف أكفهم الخاطفة عن اختزالها وتركها على حالها غير متعرض لها بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة كما ينبئ عنه ما بعده من النهي عن التبدل، والأكل لا الإعطاء بالفعل فإنه مشروط بالبلوغ وإيناس الرشد على ما ينطق به قوله تعالى: حكم الأيتام، حتى إذا بلغوا الآية وإنما عبر عما ذكر بالإيتاء مجازا للإيذان بأنه ينبغي أن يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجرد ترك التعرض لها، فالمراد بهم إما الصغار على ما هو المتبادر والأمر خاص بمن يتولى أمرهم منوشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة، وأما من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من [ ص: 140 ] أن يكون كذلك عند النزول أو بالغا، فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالهم والتحفظ عن إضاعتها مطلقا، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به، وقيل المراد بهم: الصغار وبالإيتاء: الإعطاء في الزمان المستقبل، وقيل: أطلق اسمهم على الكبار بطريق الاتساع لقرب عهدهم باليتم حثا للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم أول ما بلغوا قبل أن يزول عنهم اسمهم المعهود، فالإيتاء بمعنى الإعطاء بالفعل ويأباهما ما سيأتي من قوله تعالى: الأولياء والأوصياء وابتلوا اليتامى إلخ فإن ما فيه من الأمر بالدفع وارد على وجه التكليف الابتدائي لا على وجه تعيين وقته أو بيان شرطه فقط كما هو مقتضى القولين، وأما تعميم الاسم للصغار والكبار مجازا بطريق التغليب مع تعميم الإيتاء للإيتاء حالا وللإيتاء مآلا، وتعميم الخطاب لأولياء كلا الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيدا فمع ما سبق تكلف لا يخفى، فالأنسب ما تقدم من حمل إيتاء أموالهم إليهم على ما يؤدي إليه من ترك التعرض لها بسوء كما يلوح به التعبير عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواء أريد باليتامى الصغار أو ما يعم الصغار والكبار حسبما ذكر آنفا، وأما ما روي من أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له فلما بلغ طلب منه ماله فمنعه فنزلت; فلما سمعها قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فغير قادح في ذلك لما أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب نهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق ، وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى: ومن يتبدل الكفر بالإيمان إلخ وقوله تعالى: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى: وبدلناهم بجنتيهم جنتين إلخ وأخرى بالعكس كما في قولك: "بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما" نص عليه الأزهري، وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى: يبدل الله سيئاتهم حسنات والمراد بالخبيث والطيب إن كان هو الحرام والحلال، فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا كما قاله الفراء وقيل: معناه: لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم، فالمنهي عنه أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر. وقيل: هو اختزال ماله مكان حفظه وأيا ما كان; فإنما عبر عنهما بهما تنفيرا عما أخذوه وترغيبا فيما أعطوه وتصويرا لمعاملتهم بصورة ما لا يصدر عن العاقل ، وإن كان هو الرديء والجيد فمورد النهي ما كانوا عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم وبه قال والزجاج. سعيد بن المسيب والنخعي والزهري وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها، وأما التعبير عنها بتبدل الخبيث بالطيب مع أنها تبديله به أو تبدل الطيب بالخبيث فللإيذان بأن الأولياء حقهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوب إليه مشترى كان أو ثمنا لا لسلب المسلوب عنه. والسدي، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم نهي عن منكر آخر كانوا يتعاطونه، أي: لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ولا تسووا بينهما وهذا حلال وذاك حرام، وقد خص من ذلك مقدار عند كون [ ص: 141 ] الولي فقيرا. أجر المثل إنه أي: الأكل المفهوم من النهي. كان حوبا أي: ذنبا عظيما، وقرئ بفتح الحاء وهو مصدر: حاب حوبا، وقرئ "حابا" وهو أيضا مصدر كقال قولا وقالا. كبيرا مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور كأنه قيل: من لا من أفنائها. كبار الذنوب العظيمة