وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن كون خلقهم مغيا بعبادته تعالى مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم خلق الجن في الذكر لتقدمه على خلق الإنس في الوجود ومعنى خلقهم لعبادته تعالى: خلقهم مستعدين لها ومتمكنين منها أتم استعداد وأكمل تمكن مع كونها مطلوبة منهم بتنزيل ترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات جليلة مما لا نزاع فيه قطعا. كيف لا؟ وهي رحمة منه تعالى وتفضل على عباده وإنما الذي لا يليق بجنابه عز وجل تعليلها بالغرض بمعنى الباعث على الفعل بحيث لولاه لم يفعله لإفضائه إلى استكماله بفعله وهو الكامل بالفعل من كل وجه، وأما بمعنى نهاية كمالية يفضي إليها فعل الفاعل الحق فغير منفي من أفعاله تعالى بل كلها جارية على المنهاج وعلى هذا الاعتبار يدور وصفه تعالى بالحكمة ويكفي في تحقق معنى التعليل على ما يقوله الفقهاء ويتعارفه أهل اللغة هذا المقدار وبه يتحقق مدلول اللام، وأما إرادة الفاعل لها فليست من مقتضيات اللام حتى يلزم من عدم صدور العبادة عن البعض تخلف المراد عن الإرادة فإن تعوق البعض عن الوصول إلى الغاية مع تعاضد المبادئ وتآخذ المقدمات الموصلة إليها لا يمنع كونها غاية كما في قوله تعالى: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ونظائره، وقيل: المعنى: إلا ليؤمروا بعبادتي كما في قوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ، وقيل: المراد: سعداء الجنسين كما أن المراد [ ص: 145 ] بقوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس :أشقياؤهما ، ويعضده قراءة من قرأ "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين"، وقال : -واختاره مجاهد البغوي- معناه: إلا ليعرفوه ومداره قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحيكه عن رب العزة "كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة على طريق إطلاق اسم السبب على المسبب التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة.