ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني، وقرئ "ولا تحسبن" بكسر السين، والمراد بهم شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شهاب وعبد الله بن جحش، وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب، وقرئ بالياء على [ ص: 112 ] الإسناد إلى ضميره عليه السلام أو ضمير من يحسب. وقيل: إلى الذين قتلوا، والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة، والتقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا، أي: لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا، على أن المراد من توجيه النهي إليهم تنبيه السامعين على أنهم أحقاء بأن يسلوا بذلك ويبشروا بالحياة الأبدية والكرامة السنية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل; إذ بعد تبين حالهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه، وقرئ "قتلوا" بالتشديد لكثرة المقتولين. بل أحياء أي: بل هم أحياء وقرئ منصوبا، أي: بل احسبهم أحياء على أن الحسبان بمعنى اليقين كما في قوله:
حسبت التقى والمجد خير تجارة ... رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
أو على أنه وارد على طريق المشاكلة. عند ربهم في محل الرفع على أنه خبر ثان للمبتدإ المقدر أو صفة لـ"أحياء" أو في محل النصب على أنه حال من الضمير في "أحياء". وقيل: هو ظرف "أحياء" أو للفعل بعده، والمراد بالعندية: التقرب والزلفى، وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم. يرزقون أي: من الجنة، وفيه تأكيد لكونهم أحياء وتحقيق لمعنى حياتهم. قال الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الإمام الواحدي: وروي عنه عليه السلام أنه قال: "أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون". وروي "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر تدور في أنهار الجنة". وفيه دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف لا يفنى بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول المراد: أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر، وقيل: المراد أنها تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال. "ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش"،