وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير .
وإذ قال إبراهيم : عطف على ما قبله من قوله (تعالى): وإذ جعلنا ؛ إلخ.. إما بالذات؛ أو بعامله المضمر؛ كما مر؛ رب اجعل هذا بلدا آمنا ؛ ذا أمن؛ كـ عيشة راضية ؛ أو: آمنا أهله؛ كـ "ليلة نائم"؛ أي: اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة؛ وكان ذلك أول ما قدم - عليه السلام - مكة؛ كما روى عن سعيد بن جبير؛ - رضي الله عنهما - أنه - عليه الصلاة والسلام - لما أسكن ابن عباس إسماعيل وهاجر هناك؛ وعاد متوجها إلى الشام؛ تبعته هاجر تقول: إلى من تكلنا في هذا البلقع؟ وهو لا يرد عليهما جوابا؛ حتى قالت: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم؛ قالت: إذن لا يضيعنا؛ فرضيت؛ ومضى؛ حتى إذا استوى على ثنية كداء أقبل على الوادي فقال: ربنا إني أسكنت ؛ الآية.. وتعريف البلد؛ مع جعله صفة لـ "هذا"؛ في سورة "إبراهيم"؛ إن حمل على تعدد السؤال؛ لما أنه - عليه السلام - سأل أولا كلا الأمرين: البلدية؛ والأمن؛ فاستجيب له في أحدهما؛ وتأخر الآخر إلى وقته المقدر له؛ لما تقتضيه الحكمة الباهرة؛ ثم كرر السؤال حسبما هو المعتاد في الدعاء والابتهال؛ أو كان المسؤول أولا البلدية؛ ومجرد الأمن المصحح للسكنى؛ كما في سائر البلاد؛ وقد أجيب إلى ذلك؛ وثانيا الأمن المعهود؛ أو كان هو المسؤول أولا أيضا؛ وقد أجيب إليه؛ لكن السؤال الثاني لاستدامته. والاقتصار على سؤاله مع جعل البلد صفة لهذا؛ لأنه المقصد الأصلي؛ أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق؛ بخلاف الأمن؛ وإن حمل على وحدة السؤال؛ وتكرر الحكاية - كما هو المتبادر - فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين؛ وقد حكي ذلك ههنا؛ واقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن؛ اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال جعل أفئدة الناس تهوي إليه؛ كما سيأتي تفصيله هناك؛ بإذن الله - عز وجل -؛ وارزق أهله من الثمرات ؛ من أنواعها؛ بأن تجعل بقرب منه قرى يحصل فيها ذلك؛ أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعة؛ وقد حصل كلاهما؛ حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية؛ والصيفية؛ والخريفية؛ في يوم واحد؛ روي عن - رضي الله عنهما - أن ابن عباس الطائف كانت من أرض فلسطين؛ فلما دعا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بهذه الدعوة؛ رفعها الله (تعالى) فوضعها حيث وضعها؛ رزقا للحرم؛ وعن أنه (تعالى) نقل قرية من [ ص: 159 ] الزهري
قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام.
من آمن منهم بالله واليوم الآخر : بدل من "أهله"؛ بدل البعض؛ خصهم بالدعاء؛ إظهارا لشرف الإيمان؛ وإبانة لخطره؛ واهتماما بشأن أهله؛ ومراعاة لحسن الأدب؛ وفيه ترغيب لقومه في الإيمان؛ وزجر عن الكفر؛ كما أن في حكايته ترغيبا وترهيبا لقريش؛ وغيرهم من أهل الكتاب.
قال : استئناف مبني على السؤال؛ كما مر مرارا؛ وقوله (تعالى): ومن كفر : عطف على مفعول فعل محذوف تقديره: ارزق من آمن؛ ومن كفر؛ وقوله (تعالى): فأمتعه : معطوف على ذلك الفعل؛ أو في محل رفع بالابتداء؛ قوله (تعالى) فأمتعه ؛ خبره؛ أي: "فأنا أمتعه"؛ وإنما دخلته الفاء تشبيها له بالشرط. والكفر - وإن لم يكن سببا للتمتيع المطلق - لكنه يصلح سببا لتقليله؛ وكونه موصولا بعذاب النار؛ وقيل: هو عطف على "من آمن"؛ عطف تلقين؛ كأنه قيل: قل: وارزق من كفر؛ فإنه أيضا مجاب؛ كأنه - عليه السلام - قاس الرزق على الإمامة؛ فنبهه (تعالى) على أنه رحمة دنيوية؛ شاملة للبر؛ والفاجر؛ بخلاف الإمامة الحاصلة بالخواص؛ وقرئ: "فأمتعه"؛ من "أمتع"؛ وقرئ: "فنمتعه؛ قليلا : تمتيعا قليلا؛ أو زمانا قليلا؛ ثم أضطره إلى عذاب النار ؛ أي: ألزه إليه لز المضطر لكفره؛ وتضييعه ما متعه به من النعم؛ وقرئ: "ثم نضطره"؛ على وفق قراءة: "فنمتعه"؛ وقرئ: "فأمتعه قليلا ثم اضطره"؛ بلفظ الأمر فيهما؛ على أنهما من دعاء إبراهيم - عليه السلام -؛ وفي "قال" ضميره؛ وإنما فصله عما قبله لكونه دعاء على الكفرة؛ وتغيير سبكه للإيذان بأن الكفر سبب لاضطرارهم إلى عذاب النار؛ وأما رزق من آمن فإنما هو على طريقة التفضيل؛ والإحسان؛ وقرئ بكسر الهمزة؛ على لغة من يكسر حرف المضارعة؛ و"أطره"؛ بإدغام الضاد في الطاء؛ وهي لغة مرذولة؛ فإن حروف "ضم شفر" يدغم فيها ما يجاورها؛ بلا عكس؛ وبئس المصير ؛ المخصوص بالذم محذوف؛ أي: بئس المصير النار؛ أو عذابها.