كل خمصانة أرق من الخمر بقلب أقسى من الجلمود
لما في أشد من المبالغة، لأنه يدل على الزيادة بجوهره، وهيئته، بخلاف أقسى، فإن دلالته بالهيئة فقط، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين، ولو كان أقسى لكان دالا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة، وليس هذا مثل قولك: زيد أشد إكراما من عمرو، حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام، وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو، لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو، للفرق بين ما بني للتوصل، وما بني لغيره، وما نحن فيه من الثاني، وإن كان الأول أكثر، والاعتراض بأن أشد محمول على القلوب، دون القسوة ليس بشيء، لأنه محمول عليها، بحسب المعنى، لكونها تمييزا محولا عن الفاعل، أو منقولا عن المبتدإ، كما في البحر، ويمكن أن يقال : إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب، بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدوروإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة، أو اعتراض بين قوله تعالى : ثم قست قلوبكم وبين الحال عنها، وهو وما الله بغافل لبيان سبب ذلك، فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب، كما في قوله :
فلا هجرة يبدو وفي اليأس راحة ولا وصفه يصفو لنا فنكارمه)
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في منها لما يهبط عائد على القلوب، والمعنى: أن من القلوب قلوبا تطمئن، وتسكن، وترجع إلى الله تعالى، وهي قلوب المخلصين، فكنى عن ذلك بالهبوط، وقيل : إنها حقيقة، إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البرد، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله، وهذا القول أبرد من الثلج، وما قبله أكثف من الحجر، وما قبلهما بين بين، وقال قوم: إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط، وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات، ومنها هاتيك الأفعال، ونحو على حذف مضاف، أي يحبنا أهله، ونحب أهله، فظاهر. (هذا جبل يحبنا ونحبه)،
وأما على القول بعدم الاشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل، والحياة لا يصح أن يكون بيانا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوة، وهو المناسب للمقام، والاعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الانقياد لأمر التكليف بطريق القصد، والاختيار، ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر، والإلجإ كما في الحجارة، وعلى هذا لا يتم ما ذكر، فالأولى الحمل على الحقيقة، أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة، لقبولها التأثر الذي يليق بها، وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم، فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها، وخلقت له، والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجؤه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم أشد قسوة، لا يخلو عن نظر، لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق، فلا ينفع، وإن أريد به حقيقة الإلجاء فممنوع، وإلا لما تخلف عنها التأثر، ولما استحق من آمن بعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانا اضطراريا، ولم يقل به أحد، ثم الظاهر على هذا تعلق خشية الله بالأفعال الثلاثة السابقة، وقرئ (وإن) على أنها المخففة من الثقيلة، ويلزمها اللام الفارقة بينها وبين النافية، يقول : إنها النافية، واللام بمعنى إلا، وزعم والفراء أن (إن) إن وليها اسم كانت المخففة، وإن فعل كانت النافية، وقطرب: إنها إن وليها فعل كانت بمعنى قد، وقرأ الكسائي (ينفجر) مضارع انفجر، مالك بن دينار (يتشقق)، (ويهبط) بالضم. والأعمش
وما الله بغافل عما تعملون وعيد على ما ذكر كأنه قيل : إن الله تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم، حافظ لأعمالهم محص لها، فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة، وقرأ (يعملون) بالياء التحتانية ضما إلى [ ص: 298 ] ما بعده من قوله سبحانه: " أن يؤمنوا ويسمعون " وفريق منهم، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية لمناسبة (وإذ قتلتم) و(ادارأتم) و(تكتمون) إلخ، وقيل : ضما إلى قوله تعالى : (أفتطمعون) بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين، وعد لهم، ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلا لبيان قبائح اليهود، ابن كثير