وقوله تعالى : فلما جن عليه الليل يحتمل أن يكون عطفا على وإذ قال إبراهيم وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق، فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكيته تعالى للسموات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها قومه. واختاره بعض المحققين، ويحتمل أن يكون تفصيلا لما ذكر من إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استلاله عليه السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان، والترتيب ذكرى لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر. ومعنى فلما جن عليه الليل ستره بظلامه، وهذه المادة بمتصرفاتها تدل على الستر. وعن أصل الجن الستر عن الحاسة، يقال : جنه الليل وأجنه وجن عليه، فجنه وجن عليه ستره، وأجنه جعل له ما يستره الراغب
وقوله سبحانه : رأى كوكبا جواب (لما) فإن رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس. وهذا كما قال شيخ الإسلام صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس، والتحقيق عنده أنه كان قريبا من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك. والمراد بالكوكب -فيما روي عن رضي الله تعالى عنهما- المشترى. وأخرج ابن عباس وغيره عن ابن المنذر أنه قال : ذكر لنا أنه الزهرة قتادة قال هذا ربي استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق، وهذا منه عليه السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول يحكيه ثم يكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول. [ ص: 199 ] وقيل : إن في الكلام استفهاما إنكاريا محذوفا؛ وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم، ومنه قوله : ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرا، وقوله : فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وروي عن رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى : ابن عباس فلا اقتحم العقبة إن المعنى: أفلا اقتحم، وجعل من ذلك قوله تعالى : وتلك نعمة تمنها علي ، وقيل : أنه مقول على سبيل الاستهزاء؛ كما يقال لذليل ساد قوما : هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء، وقيل : إنه عليه السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة؛ وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا. وقرر الإمام هذا بأنه عليه السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق وكان مأمورا بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر، ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان. وإذا جاز ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى، فكلام إبراهيم عليه السلام كان من باب الموافقة ظاهرا للقوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ثم قال : ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى: فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسئلتنا لمثل ذلك، وقيل : إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم، فقال : هذا ربي. على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني إليه، وقيل: والكل ليس بشيء عند المحققين لا سيما ما قرره الإمام، وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد، وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك
وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلها وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا والكل لا يصح لذلك؛ فيتعين كون الله تعالى إلها وهو خلاف الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى. وزعم أنه عليه السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفا بربه سبحانه، والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرا مما لا يلتفت إليه أصلا، فقد قال المحققون المحقون : إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء. وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه السلام خصوصا في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير. ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام كما قيل لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول، فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون، وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام على ما ذكر من باب الترقي من الخفي [ ص: 200 ] إلى الأخفى، وقيل : إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضا، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الإلهية في الأصنام والربوبية فيها، وقرأ أبو عمرو من طريق وورش (رإي) بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان وقرأ البخاري ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ويحيى عن (رئي) بكسر الراء والهمزة أبي بكر فلما أفل أي غرب قال لا أحب الآفلين
67
- أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال، ونفي المحبة قيل إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية
وكنى بعضهم بعدم المحبة لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى، وقدر بعضهم في الكلام مضافا أي لا أحب عبادة الآفلين، وأيا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأقوال انتقال واحتجاب وكل منها ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان المستحيلين على الرب المعبود القديم.