وقال بعضهم وهو المنصور : أن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والإلهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب والرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها والله يعصمك من الناس بما أودع فيك من أسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا إليك ما يقطعك عن الله تعالى، وقريب من ذلك ما قيل: يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال، وقيل: يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئا بل ترى الكل منه سبحانه وبه قل يا أهل الكتاب لستم على شيء يعتد به حتى تقيموا التوراة فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع [ ص: 7 ] توحيد الأفعال والإنجيل فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الأتم مع توحيد الصفات وما أنزل إليكم فتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبكم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة أسراره
وعن بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم: أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم ذو صفتين؛ صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرءان بصفة اللطف يزيد نور بصيرته وحكمته وحقائق أسراره ودقائق بيانه ويزيد بذلك ظاهر الخطاب وباطنه، ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لا يدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: هدى للمتقين وقوله سبحانه: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فإنه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه
ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنه قد هدي بها أرباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك والذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم، وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لا فرق بين أن يدخل الرجل أصبعه في فمه وبين أن يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد، وكذا لا فرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه، ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من دون فهم لمرادهم وما درى هذا المسكين أن مراعاة المراتب أمر واجب عندهم وأن ترك ذلك زندقة وأنهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى الله تعالى بإهمالها، فقد جاء عن غير واحد من العارفين : الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا: إنه زنديق، ولله در من قال خطابا للحضرة المحمدية :
وأنت باب الله أي أمره أتاه من غيرك يدخل
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا الإيمان الحقيقي اليهود وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال والذين أشركوا كذلك بل هم أشد مباينة منهم للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقا وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار، وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الأفعال والصفات وأنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم إليها بل إلى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من أنواع التوحيد التي [ ص: 8 ] من جملتها توحيد الذات ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا بالدليل وبواسطة الرياضة من الحق الذي أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون ربنا آمنا بذلك فاكتبنا مع الشاهدين المعاينين لذلك وما لنا لا نؤمن بالله جمعا وما جاءنا من الحق تفصيلا ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار من التجليات الثلاث مع علومها وذلك جزاء المحسنين المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عز وجل والذين كفروا أي حجبوا عن الذات وكذبوا بآياتنا الدال على التوحيد أولئك أصحاب الجحيم لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها، والله تعالى الموفق