( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير - جل شأنه وعظم سلطانه - وبدأ بالوجه؛ لأنه سبحانه وتعالى نقشه بنقش خاتم صفاته، وفي الفتوحات لا خلاف في أن غسل الوجه فرض، وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقا، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع منها:
البياض الذي بين العذار والأذن، والثاني ما سدل من اللحية، والثالث تخليل اللحية، فأما البياض المذكور فمن قائل بوجوب إمرار الماء عليه، ومن قائل بأنه لا يجب، وكذلك تخليل اللحية، فمن قائل بوجوبه، ومن قائل بأنه لا يجب، وحكم ذلك في الباطن، أما غسل الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو فرض، وفيه ما هو ليس بفرض، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وأما السنة [ ص: 91 ] منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك، وإن كان ذلك قد أبيح لك، لكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى، فما يتعين منه فهو فرض عليك، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب، فيراقب الإنسان أفعاله ظاهرا وباطنا، ويراقب ربه في باطنه، فإن وجه قلبه هو المعتبر، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته، يقال: وجه الشيء أي: حقيقته وعينه وذاته، فالحياء خير كله، والحياء من الإيمان، ولا يأتي إلا بخير.
وأما البياض الذي بين العذار والأذن وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سماعه، فالعمل في ذلك إدخال الحد في المحدود، فالأولى بالإنسان أن يصرف حيائه في سمعه كما صرفه في بصره، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له غيبة وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي، فإن ذلك البياض هو بين العذار والأذن وهو محل الشبهة، وهو أن يقول: أصغيت إليه لأرد عليه، وهذا معنى العذار، فإنه من العذر، أي الإنسان يعتذر إذا قيل له: لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول: إني أردت أن أحقق سماع ما قال حتى أنهاه عنه، فكنى عنه بالعذار، فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك.
وأما غسل ما استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض، فإن اللحية شيء يعرض في الوجه، وليست من أصله، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض، فإن تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله، وإن لم يتعين عليك طهارته فطهرته استحبابا أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجها إلى الفريضة ووجها إلى السنة والاستحباب، فالفرض من ذلك لا بد من إتيانه، وغير الفرض عمله أولى من تركه، وذلك سار في جميع العبادات، انتهى.
وقال بعض العارفين: هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي، إذا قاموا عن نوم الغفلة، وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية، والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات، الذي يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس.
وأول هذا الأيدي في قوله تعالى: ( وأيديكم ) بالقوى والقدر أي: طهروا أيضا قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس ( إلى المرافق ) أي: قدر الحقوق والمنافع، وقال الشيخ الأكبر - قدس سره -: أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين، واختلفوا في إدخال المرافق في هذا الغسل، فمن قائل بوجوب إدخالهما، ومن قائل بعدم الوجوب، لكن لم ينازع بالاستحباب، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة والاعتصام والتوكل، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة.
بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في خلقه، فلا يريد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها، فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله تعالى، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الأسباب، وكل من يقول بأنه لا يجب غسلها يقول: يستحب، كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع، وإن اختلفت أحكامهم فيها، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها.
( وامسحوا برءوسكم ) قال بعض العارفين: أي: بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه [ ص: 92 ] إلى العالم السفلى، ومحبة الدنيا بنور الهدى، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق، بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم، ويكفي في انتشار نوره صقل الوجه العالي الذي يتوجه إليه؛ فإن القلب ذو وجهين:
أحدهما إلى الروح، والرأس هنا إشارة إليه.
والثاني إلى النفس وقواها، وأحرى بالرجل أن تكون إشارة إليه.
وقال الشيخ الأكبر - قدس الله سره - بعد أن بين اختلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه: وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من الرياسة وهي العلو والارتفاع، ولما كان أعلى ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأسا، فإن الرئيس فوق المرءوس، وله جهة فوق، وقد وصف الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر، فقال سبحانه: وهو القاهر فوق عباده فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به رأس على البدن كله، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية، فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمي رأسا، ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله اليافوخ، وهو أعلى موضع في الرأس، فجعله سبحانه مما يلي جانب الفوقية، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها، وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة، فعمت الرأس كله، وجب مسح كله في هذه العبارة لهذه الرياسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع والإقناع، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها، وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس.
ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة فإن القوة المصورة مثلا لها سلطان على القوة الخيالية، فهي الرئيسة عليها، وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال: الواجب عليه مسح بعض الرأس، وهو المقسم بالأعلى.
ثم اختلفوا في هذا البعض، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في مراتب هذه القوى، فيمسح بحسب ما يرى، ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية؛ لأن المتوضئ بصدد مناجاة ربه وطلب صلته، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه، فيقف بين يديه وقوف العبيد في محل الإذلال، لا بصفة الإذلال، فمن غلب على خاطره رياسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة، ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم؛ لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق، فترى الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه، وتفصيل رياسات القوى معلوم عن أهل هذا الشأن، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في المسموح سواء؛ فإن المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك، ومحل ذلك اليد، فمن مزيل بصفة القهر، ومن مزيل بسياسة وترغيب، إلى آخر ما قال.
( وأرجلكم ) أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات، وغسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضيات، حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة.
وفي الفتوحات اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء، هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما، ومذهبنا التخيير، والجمع أولى، وما من قول إلا وبه قائل، والمسح بظاهر الكتاب، والغسل بالسنة، ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها، وأما حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد والثبات يوم الزحف مما تطهر به الأقدام، فلتكن طهارة [ ص: 93 ] رجليك بما ذكرناه وأمثاله، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس، ولا تمش مرحا، واقصد في مشيك، واغضض من صوتك، ومن هذا ما هو فرض بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره، ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه، وما أوجبه عليك، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك، والمندوب والمستحب والسنة - وما شئت فقل من ذلك - نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد، فإن ذلك ليس بواجب، وإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجدا لا بعينه، وجماعة لا بعينها، فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى.
واعلم أن الغسل يتضمن المسح، فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس، ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى، وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة، والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال، والغسل فيما يقتضي العموم، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك بمنزلة المسح، وقد يسعى للملك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم، فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح، انتهى.
وإن كنتم جنبا فاطهروا الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه، وليس إلا العبودية، وتغريب صفة ربانية عن موطنها، وكل ذلك يوجب التطهير، وقوله تعالى: وإن كنتم مرضى إلخ، قد تقدم نظيره.
وفي الفتوحات: اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة، فمن قائل: حدها مثل حد الوضوء. ومن قائل: هو الكف فقط، وبه أقول. ومن قائل: إن الاستحباب إلى المرفقين، والفرض الكفان. ومن قائل: إن الفرض إلى المناكب.
والاعتبار في ذلك أنه لما كان التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب، وهو حقيقة عبوديته، ويكون ذلك بنظره في أصل خلقه، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل - وهذه الصفات من صفات الأيدي - قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه، والكرم والعطاء: طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك، ومن بخلك، فقد قال تعالى: خلقكم من ضعف ، ومن يوق شح نفسه ، وإذا مسه الخير منوعا فإذا نظر إلى هذا الأصل زكت نفسه، وتطهرت من الدعوى.
واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمن قائل: واحدة. ومن قائل: اثنتان. والقائلون بذلك منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، ومنهم من قال: وضربتان لليد وضربتان للوجه. ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه، ومن ضرب اثنتين أجزأه، وحديث الضربة الواحدة أثبت، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه الطهارة، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال بالضربة الواحدة، ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى، ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عنه، مثل قوله تعالى: والله خلقكم وما تعملون فأثبت ونفى قال بالضربتين، ومن قال: إن ذلك في كل فعل قال بالضربتين لكل عضو، انتهى.
وقد أطال الشيخ - قدس سره - الكلام في أنواع الطهارة، وأتى فيه بالعجب العجاب.
( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي: ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات ( ولكن يريد ليطهركم ) من الصفات الخبيثة.
وعن سهل : الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من النسيان، وطهارة اليقين من الشك، وطهارة العقل من الحمق، وطهارة الظن من التهمة، وطهارة الإيمان مما دونه، وطهارة القلب من [ ص: 94 ] الإرادات.
وقال: إسباغ طهارة الظاهر تورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى، والطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم، ومباينة الأنام، وصدق اللسان، وخشوع السر، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة.
وقال ابن عطاء : البواطن مواضع نظر الحق سبحانه، فقد روي عنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - « » فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة، وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات، والمخالفات، وفنون الوساوس، والغش، والحقد، والرياء، والسمعة، وغير ذلك من المناهي، وليس شيء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا يخفى من اللطف. إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم
( وليتم نعمته عليكم ) بالتكميل، وقال بعض العارفين: إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم، وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم، فشتان بين قوم وقوم ( ولعلكم تشكرون ) نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء ( واذكروا نعمة الله عليكم ) بالهداية إلى طريق الوصول إليه ( وميثاقه الذي واثقكم به ) وهو عقود عزائمه المذكورة ( إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) أي: إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة، وقال بعضهم: المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة في الأزل لأهل السعادة، وبالميثاق الميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه، وقال أبو عثمان: النعم كثيرة، وأجلها المعرفة به سبحانه، والمواثيق كثيرة وأجلها الإيمان.
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم ) أي: من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها ( أن يبسطوا إليكم أيديهم ) بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها ( فكف أيديهم عنكم ) أي: فمنعها عنكم، بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه ( واتقوا الله ) واجعلوه سبحانه وقاية في قهرها ومنعها ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) برؤية الأفعال كلها منه، عز وجل.
( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية، وذكر غير واحد من سادتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع:
الأولياء: نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ففي الفتوحات: ومنهم النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك الاثني عشر برجا، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت، فإن للثوابت حركات وقطعا في البروج لا يشعر به في الحس؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين، وأعمار الرصد تقصر عن مشاهدة ذلك.
واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها، ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم، يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه، وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي، مثل العلماء بالآثار والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير، يخرجون الأثر في الصخور، وإذا رأوا شخصا يقولون: هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر، وليسوا بأولياء، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟! انتهى.
وقد عد الشيخ - قدس سره - فيها أنواعا كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض فتاوى ابن تيمية: وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة، مثل الغوث الذي بمكة ، والأوتاد الأربعة، [ ص: 95 ] والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى، ولا هي مأثورة عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد، عن - كرم الله تعالى وجهه - مرفوعا إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: « علي الشام - الأبدال أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا » ولا توجد أيضا في كلام السلف، انتهى. إن فيهم - يعني أهل
وأنا أقول:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
( وقال الله ) تعالى ( إني معكم ) بالتوفيق والإعانة ( لئن أقمتم الصلاة ) وتحليتم بالعبادات البدنية ( وآتيتم الزكاة ) وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم ( وآمنتم برسلي ) جميعهم من العقل، والإلهامات، والأفكار الصائبة، والخواطر الصادقة من الروح والقلب، وإمداد الملكوت ( وعزرتموهم ) أي: وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم، وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس، وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية ( وأقرضتم الله قرضا حسنا ) بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه، بل ومن الأفعال والصفات جميعها، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا ( لأكفرن عنكم سيئاتكم ) التي هي الحجب والموانع لكم ( ولأدخلنكم جنات ) مما عندي ( تجري من تحتها الأنهار ) وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد، وتجليات الأفعال والصفات والذات ( فمن كفر بعد ذلك ) العهد وبعث النقباء منكم ( فقد ضل سواء السبيل ) وهلك مع الهالكين.
( فبما نقضهم ميثاقهم ) الذي وثقوه ( لعناهم ) وطردناهم عن الحضرة ( وجعلنا قلوبهم قاسية ) باستيلاء صفات النفس عليها، وميلها إلى الأمور الأرضية ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى، واستبدلوا قوى أنفسهم بها، واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها ( ونسوا حظا ) نصيبا وافرا ( مما ذكروا به ) في العهد اللاحق، وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) من نقض عهد، ومنع أمانة؛ لاستيلاء شيطان النفس عليهم، وقساوة قلوبهم ( إلا قليلا منهم ) وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه ( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة، جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين.