هذا، ومن باب الإشارة في الآيات ( إن الذين كفروا ) ستروا ما اقتضاه استعدادهم ( وصدوا ) ومنعوا غيرهم ( عن ) سلوك ( سبيل الله ) أي الطريق الموصلة إليه ( قد ضلوا ضلالا بعيدا ) لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة ( إن الذين كفروا وظلموا ) منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل ( لم يكن الله ليغفر لهم ) لبطلان استعدادهم ( ولا ليهديهم طريقا ) لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد ( إلا طريق جهنم ) وهي نيران أشواق نفوسهم الخبيثة ( وكان ذلك على الله يسيرا ) لانجذابهم إليها بالطبيعة ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ) نهي لليهود والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا، وقد غلا الفريقان في دينهم.
أما اليهود فتعمقوا في الظاهر ونفي البواطن، فحطوا عيسى - عليه السلام - عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق الله تعالى، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر فرفعوا عيسى - عليه السلام - إلى درجة الألوهية.
( ولا تقولوا على الله إلا الحق ) بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفضيل، كما هو التوحيد المحمدي ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ) الداعي إليه ( وكلمته ألقاها إلى مريم ) أي: حقيقة من حقائقه الدالة عليه ( وروح منه ) أي: أمر قدسي منزه عن سائر النقائص.
وذكر الشيخ الأكبر - قدس سره - أن سبب تخصيص عيسى - عليه السلام - بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا غيره، فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم الله تعالى، صادرا من اسم ذاتي، ولم يكن صادرا من الأسماء الفرعية كغيره، وما كان بينه وبين الله تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره - عليهم الصلاة والسلام - فإن أرواحهم - وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى - لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الأسمائية، فما سمي عيسى - عليه السلام - روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية، ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله تعالى؛ من إحياء الموتى، وخلق الطير، وتأثيره في الجنس العالي والجنس الدون، وكانت دعوته - عليه السلام - إلى الباطن والعالم القدسي، فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم الله تعالى وهويته الغيبية، ولذلك طهر الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية؛ لأنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام الشعراني في الجواهر والدرر.
( فآمنوا بالله ورسله ) بالجمع والتفصيل ( ولا تقولوا ثلاثة ) لأن ذلك ينافي التوحيد الحقيقي، وعيسى - عليه السلام - في الحقيقة، فإن وجوده بوجود الله تعالى، وحياته - عليه السلام - بحياته - جل شأنه - وعلمه - عليه السلام - بعلمه سبحانه ( إنما الله إله واحد ) وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق ( سبحانه أن يكون له ولد ) أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره، متولد منه، مجالس له في الوجود ( له ما في السماوات وما في الأرض ) أي: ما في سماوات الأرواح وأرض الأجساد؛ لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه.
( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ) في مقام التفصيل، إذ كل ما ظهر فهو ممكن، والممكن لا وجود له بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية ( ولا الملائكة المقربون ) الذين هم أرواح مجردة، وأنوار قدسية محضة، وأما في مقام الجمع فلا عيسى ، ولا ملك، ولا قرب، ولا بعد، ولا ولا ....
( ومن يستنكف عن عبادته ) بظهور أنانييه ( ويستكبر ) بطغيانه في الظهور بصفاته ( فسيحشرهم إليه جميعا ) [ ص: 47 ] بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر، حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع.
( فأما الذين آمنوا ) الإيمان الحقيقي، بمحو الصفات وطمس الذات ( وعملوا الصالحات ) وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها ( فيوفيهم أجورهم ) من جنات صفاته ( ويزيدهم من فضله ) بالوجود الموهب لهم بعد الفناء ( وأما الذين استنكفوا ) وأظهروا الأنانية ( واستكبروا ) وطغوا فقال قائلهم: أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه ( فيعذبهم عذابا أليما ) باحتجابهم وحرمانهم.
( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) وهو التوحيد الذاتي ( وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) وهو التفصيل في عين الجمع، فالأول إشارة إلى القرآن، والثاني إلى الفرقان ( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ) ولم يلتفتوا إلى الأغيار من حيث إنها أغيار ( فسيدخلهم في رحمة منه ) وهي جنات الأفعال ( وفضل ) وهو جنات الصفات ( ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) وهو الفناء في الذات، أو الرحمة: جنات الصفات، والفضل: جنات الذات، والهداية إليه صراطا مستقيما الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة، ولا حجر على أرباب الذوق، فكتاب الله تعالى بحر لا تنزفه الدلاء، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ونسأله التوفيق لفهم كلامه، وشرح صدورنا بعوائد إحسانه، وموائد إنعامه، لا رب غيره، ولا يرجى إلا خيره.