ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت تعجيب من حال أخرى لهم، ووصفهم بما في حيز الصلة تشديدا للتشنيع، وتأكيدا للتعجيب، وقد تقدم نظيره، والآية نزلت كما روي عن - رضي الله تعالى عنهما -في ابن عباس حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فنزل كعب على فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور أبي سفيان، قريش، فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب كتاب، فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين، وآمن بهما، ففعل.
ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجئ منكم ثلاثون ومنا ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد - صلى الله عليه وسلم - ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أو محمد؟ قال كعب: اعرضوا علي دينكم، فقال نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم اللبن، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل أبو سفيان: الحرم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى في ذلك الآية.
والجبت في الأصل اسم صنم، فاستعمل في كل معبود غير الله تعالى، وقيل: أصله الجبس، وهو - كما قال -: الرذيل الذي لا خير فيه، فقلبت سينه تاء، كما في قول الراغب عمرو بن يربوع: شرار النات، أي الناس، وإلى ذلك ذهب قطرب، والطاغوت يطلق على كل باطل من معبود وغيره.
وأخرج وغيره عن الفريابي رضي الله تعالى عنه - قال: الجبت الساحر، والطاغوت الشيطان. عمر بن الخطاب-
وأخرج - من طرق - عن ابن جرير مثله، ومن طريق مجاهد أبي الليث عنه قال: الجبت كعب بن الأشرف، والطاغوت الشيطان، كان في صورة إنسان.
وعن الجبت الساحر، بلسان سعيد بن جبير: الحبشة، والطاغوت الكاهن.
وأخرج ابن حميد، عن أن الجبت الشيطان بلغة عكرمة الحبشة، والطاغوت الكاهن، وهي رواية [ ص: 56 ] عن رضي الله تعالى عنهما. ابن عباس،
وفي رواية أخرى: الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف.
وفي أخرى: الجبت الأصنام، والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب؛ ليضلوا الناس.
ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين، كالتعظيم مثلا، والمتبادر المعنى الأول، أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين، ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق، ويسجدون لهما.
وأخرج ويقولون للذين كفروا وأخرج أي لأجلهم، وفي حقهم، فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل: (أنتم) بدل قوله سبحانه (هؤلاء) أي الكفار من أهل مكة.
أهدى من الذين آمنوا سبيلا أي: أقوم دينا، وأرشد طريقة، قيل: والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم، وإيراد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى؛ تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح