وقال الكسائي كذلك إلا أنهما قدرا الفعل بدلالة السياق؛ أعجبوا كأنه قيل: أعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة الله تعالى الذي أعزهم ورزقهم وآمنهم فلذا أمروا بعبادة ربهم المنعم عليهم بالرزق والأمن عقبه وقرن بالفاء التفريعية. والفراء
وعن أيضا أنه متعلق ب «جعلهم» كعصف في السورة قبله، والقرآن كله كالسورة الواحدة؛ فلا يضر الفصل بالبسملة خلافا لجمع. الأخفش
والمعنى: أهلك سبحانه من قصدهم من الحبشة ولم يسلطهم عليهم ليبقوا على ما كانوا عليه من إيلافهم رحلة الشتاء والصيف أو أهلك عز وجل من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترئ عليهم أحد فيتم لهم الأمن في رحلتهم، ولا ينافي هذا كون إهلاكهم [ ص: 240 ] لكفرهم باستهانة البيت لجواز تعليله بأمرين؛ فإن كلا منهما ليس علة حقيقية ليمتنع التعدد. وقال غير واحد: إن اللام للعاقبة وكان لقريش رحلتان؛ رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بصرى من أرض الشام كما روي عن وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز؛ فلا يتعرض لهم، والناس بين متخطف ومنهوب، وعن ابن عباس، أيضا أنهم كانوا يرحلون في الصيف إلى ابن عباس الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم، وأفردت الرحلة مع أن المراد رحلتا الشتاء والصيف لأمن اللبس وظهور المعنى، ونظيره قوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي
حيث لم يقل: بطني الواديين، وقوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
حيث لم يقل: بطونكم بالجمع لذلك. وقول إن ذلك لا يجوز إلا في الضرورة فيه نظر. وقال سيبويه: كانت لهم أربع رحل، وتعقبه النقاش: بأنه قول مردود. وفي البحر: لا ينبغي أن يرد؛ فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم: ابن عطية بنو عبد مناف: هاشم كان يؤالف ملك الشام، أخذ منه خيلا فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس يؤالف إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس فكان هؤلاء يسمون المتجرين فيختلف تجر قريش بخيل هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم.
قال الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة؛ فإن كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجارة في خفارة هؤلاء الأربعة فيها فيكون «رحلة» هنا اسم جنس يصلح للواحد وللأكثر، وفي هؤلاء الإخوة يقول الشاعر: الأزهري:
يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها والراحلون لرحلة الإيلاف
والرائشون وليس يوجد رائش والقائلون هلم للأضياف
والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
وقرأ «لإلاف قريش» بلا ياء. ووجه ذلك ما مر. ولم تختلف السبعة في قراءة: ابن عامر: إيلافهم بالياء كما اختلف في قراءة الأول، ومع هذا رسم الأول في المصاحف العثمانية بالياء، ورسم الثاني بغير ياء كما قاله السمين وجعل ذلك أحد الأدلة على أن القراء يتقيدون بالرواية سماعا دون رسم المصحف وذكر في وجه ذلك أنها رسمت في الأول على الأصل، وتركت في الثاني اكتفاء بالأول وهو كما ترى فتدبر.
وروي عن عن أبي بكر أنه قرأ بهمزتين فيهما الثانية ساكنة وهذا شاذ وإن كان الأصل، وكأنهم إنما أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين. وروى عاصم محمد بن داود النقار عن «إئيلافهم» بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبعت، والصحيح رجوعه عن القراءة بهمزتين وأنه قرأ كالجماعة. عاصم:
وقرأ فيما حكى أبو جعفر «لإلف قريش» وقرأ فيما حكى الزمخشري: «إلفهم». وحكيت عن ابن عطية: عكرمة وأنشدوا: وابن كثير،
زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف
وعن أيضا أبي جعفر «إلافهم» على وزن فعال. وعن وابن عامر: أيضا: «ليلاف» بياء ساكنة بعد اللام، ووجهه بأنه لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفا على غير قياس. أبي جعفر
وعن «لتألف قريش» على صيغة المضارع المنصوب بأن مضمرة بعد اللام ورفع عكرمة: قريش على الفاعلية، وعنه أيضا: «لتأليف» على الأمر، وعنه وعن هلال بن فتيان بفتح لام [ ص: 241 ] الأمر. والظاهر أن «إيلافهم» على جميع ذلك منصوب على المصدرية ولم أر من تعرض له. وقرأ أبو السمال: «رحلة» بضم الراء وهي حينئذ بمعنى الجهة التي يرحل إليها، وأما مكسور الراء فهو مصدر على ما صرح به في البحر.