في أولادكم أي في توريث أولادكم ، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية ، وقيل : في بمعنى اللام كما في خبر : أي لها كما صرح به النحاة ، والخطاب قيل : للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ، وقيل : الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم بيبين لكم ، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث ، وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر . وأخرج « إن امرأة دخلت النار في هرة » عن عبد بن حميد قال : جابر للذكر مثل حظ الأنثيين في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب; وجعلها كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت : في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف ، والمراد أنه يعد كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور [ ص: 217 ] والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل ، والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق. ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم : السمن منوان بدرهم ، والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر ، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث ردا لما كانوا عليه من أبو البقاء الاهتمام بالإناث ، وأن يقال : للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل ، ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره ، ولذا قال سبحانه : توريث الذكور دون الإناث إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة ، ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث . وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء ، والحكمة في أنه تعالى نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهن أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهن ، ومما اشتهر : جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وروي عن رضي الله تعالى عنه أن جعفر الصادق حواء عليها السلام أخذت حفنة من الحنطة وأكلت وأخذت أخرى وخبأتها ثم أخرى ودفعتها إلى آدم عليه السلام، فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل، ذكره بعضهم ولم أقف على صحته .
ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى ، واستثني من العموم الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم بناء على القول بدخوله صلى الله عليه وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة ، والدليل على الاستثناء قوله صلى الله عليه وسلم : " وأخذ نحن معاشر الأنبياء لا نورث " الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلى الله تعالى عليه وسلم حتى قالت له بزعمهم : يا الزهراء ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا؟ وقالوا : إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد ، ولا يجوز بدليل أن تخصيص الكتاب بخبر الآحاد رضي الله تعالى عنه رد خبر عمر بن الخطاب أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى : فاطمة بنت قيس أسكنوهن فقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة . فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله ، وأيضا العام وهو الكتاب قطعي ، والخاص وهو خبر الآحاد ظني فيلزم ترك القطعي بالظني . وقالوا أيضا : إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى : وورث سليمان داود وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون .
والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وقد أخرج وسعد بن أبي وقاص [ ص: 218 ] عن البخاري مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم عمر بن الخطاب علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا : اللهم نعم ، ثم أقبل على وسعد بن أبي وقاص علي والعباس فقال : أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا : اللهم نعم، فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أن رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه ، وفي كتب أبو بكر الشيعة ما يؤيده ، فقد روى الكليني في « الكافي » عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال : « إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر » وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن والأحاديث . الأنبياء لا يورثون غير العلم
وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا ، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن العباس جائز اتفاقا وإن لم يثبت وبقي الخبر من الآحاد فنقول : إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة ، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا ، ومنه قوله تعالى : تخصيص القرآن بالخبر المتواتر وأحل لكم ما وراء ذلكم ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها » والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر ، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك ، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر عمر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها ، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد، وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلى الله عليه وسلم وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه ، وأيضا إن داود عليه السلام على ما ذكره أهل التاريخ كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة .
وأيضا توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر [ ص: 219 ] يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام ، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى ، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا ، وهذا أفحش من الأول ، وإن كان المراد بعض الأولاد ، أو أريد من يعقوب غير المتبادر وهو ابن إسحاق عليهما السلام يقال : أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته ، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد ، وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه ، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف ، فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها ، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية ، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته، أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر ، وأما إن كان في معصية فلأن لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة . الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي
وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشي من أشرار بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم ، فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب ، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية ، فإن قيل : الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة ، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة ، فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب ، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال ، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح ، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد ، ومن ذلك قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب و ( أرثوا الكتاب ) إلى غير ما آية .
ومن الشيعة من أورد هنا بحثا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟ والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك رضي الله تعالى عنها لفاطمة وأسامة وسلمه إليهما; وكان كل من بيده شيء مما بناه له رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه [ ص: 220 ] تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام ، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن الإمام رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من الحسن الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى، وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه : عائشة وقرن في بيوتكن فأضاف البيوت إليهن ولم يقل في بيوت الرسول .
ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل أن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي صلى الله عليه وسلم بوجه ، وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الصديق الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلى الله عليه وسلم وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وانحرف مزاج رضاها رضي الله تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة ، وأتت فاطمة بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة ، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في « الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية » وأطال فيه .
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعه واجب عليه سواء سمعه غيره أو لم يسمع ، وقد أجمع أهل الأصول من أبا بكر أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه بلا واسطة ، فخبر عند « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه ، والقطعي يخصص القطعي اتفاقا ، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت ، ودعوى أبي بكر رضي الله تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها ، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا ، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث ، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا ، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود ، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق رد شهادتهم بل لم يقض بها ، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد ، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا ، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة ، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية ، وقد غضب الزهراء موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن استرضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعا إليها أبا بكر بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنه كما في « مدارج النبوة » و « كتاب الوفاء » و « شرح المشكاة » للدهلوي وغيرها ، وفي « محاج السالكين » وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث رووا أن لما رأى أبا بكر رضي الله تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال : صدقت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما [ ص: 221 ] ادعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتي منها قوتكم فما أنتم صانعون بها؟ فقالت : أفعل فيها كما كان أبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك ، فقالت : والله لتفعلن؟ فقال : والله لأفعلن ذلك فقالت : اللهم اشهد ورضيت بذلك ، وأخذت العهد عليه فكان فاطمة يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل ، وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها ، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب ، أو تضييق الأمر على المسلمين . وقد ورد « المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما » على أن رضا أبو بكر رضي الله تعالى عنها بعد على الزهراء سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب ، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب . الصديق
فإن كن نساء الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل ، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له ، ويجوز أن يعود إلى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد ، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا ليس معهن ذكر ، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى : فوق اثنتين إذا جعل صفة لنساء فهو محل الفائدة ، وأوجب ذلك فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت ، وجوز أبو حيان أن تكون كان تامة ، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم ، والتنازع كما قاله الزمخشري والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية ، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي فإن كن نساء زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن . الشهاب
فلهن ثلثا ما ترك أي المتوفى منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه ، ومثله شائع سائغ وإن كانت أي المولودة المفهومة من الكلام واحدة أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت . وقرأ وأهل نافع المدينة ( واحدة ) بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها ، ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل ، وقال ابن تمجيد : القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر ، فإنه إن كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر ، وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر ، وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد ، والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا فلها النصف أي ( مما ترك ) وترك اكتفاء بالأول والنصف مثلث كما في « القاموس » أحد شقي الشيء ، وقرأ ( النصف ) بضم النون وهي لغة أهل زيد بن ثابت الحجاز ، وذكر أنها أقيس لأنك تقول : الثلث والربع والخمس وهكذا، وكلها مضمومة الأوائل .
وأخذ رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر ، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة ، وجمهور الصحابة والأئمة ابن عباس والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فوقهما الثلثين ، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط ، ووجه ذلك على ما قاله القطب أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن [ ص: 222 ] للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الاثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد ، وإلى هذا أشار السيد السند في « شرح السراجية » ، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ، وأجيب بأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور ، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين ، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة أو الإشارة ، وذلك لما رواه أحمد والترمذي وأبو داود عن وابن ماجه رضي الله تعالى عنه قال : جابر سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : « يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعط لابنتي سعد الثلثين ، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك » فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية ، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت فيكون قوله سبحانه : جاءت امرأة فإن كن نساء إلخ بيانا لحظ الواحدة ، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها ، وهذا مما لا غبار عليه ، وقيل : إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين . أما الأول : فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى ، وأما الثاني : فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين ، وذكر في حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما ، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك ، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين ، وجعله العلامة ميراث الأخوات ناصر الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للاستغناء عنه بما تقدم ، ولأنه قيل : إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير ، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه ، وقيل : يمكن أن يقال : ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد ، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد ، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة ، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد ، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما .
وقيل : إن معنى الآية فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : « لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها ».
فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها ، وإلى ذلك ذهب من قال : إن أقل الجمع اثنان ، واعترض على [ ص: 223 ] رضي الله تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه ابن عباس فوق اثنتين أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد، وقد قيل به، ،وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف وإن كانت واحدة وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر ، وأجيب بأن قوله سبحانه : ( نساء ) ظاهر في كونها فوق اثنتين فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه ، وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف ، والمتيقن هو النصف ، والزائد مشكوك غير ثابت ، فتعين المصير إليه ، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى ، ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلك كما قيل فقال ما قال ، وفي « شرح الينبوع » نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في « شرح فرائض الوسيط » : صح رجوع رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا; وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث ، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم . وحكاية ابن عباس النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب « النكت » أنه قال : للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح، فافهم .
ولأبويه أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في بعد ذكر إرث الفروع ، والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب ، ولا يجوز أن يقال في ابن وبنت ابنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله إرث الأصول الزجاج لكل واحد منهما بدل من ولأبويه بتكرير العامل ، وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى : منهما السدس والخبر ، وهو لأبويه وزعم ابن المنير « أن في إعرابه بدلا نظرا ، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، ويكون أصل الكلام: والسدس لأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك فاقتضى اشتراكهن فيه ، ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك ، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدى المبدل منه والبدل واحدا ، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب ، وإلا لزم زيادة معنى في البدل ، فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله : لكل واحد منهما السدس وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما السدس استحقاقهما معا للثلث » ، ورده « بأن هذا بدل بعض من كل ولذلك أتى بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع كذا » إلا أنه اعترض على جعل لأبويه خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال ، وتعقبه أبو حيان بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك : ما محل لأبويه من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول : إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم ، [ ص: 224 ] ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون لأبويه واختير هذا التركيب دون أن يقال : ولكل واحد من أبويه السدس لما في الأول من الإجمال ، والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني ، ودون أن يقال : لأبويه السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لاحتماله التفاضل ، وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول . الحلبي
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة ( السدس ) بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن .
مما ترك متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ ، والعامل الاستقرار أي كائنا مما ترك المتوفى إن كان له ولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر ، وولد الابن كذلك ، ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية ، وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس ، أو لهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان، لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات ، وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما ، وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد على البنت وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم .
فإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن وورثه أبواه فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدل عليه الفحوى فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه ، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون ، وقيل : إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم ، وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله ، وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة، فليس المقام مقام حصة الأب وفيه تأمل لأن الظاهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون ، وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك ، ولما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين ، فللأم ثلث ما بقي بعد فرض أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا رضي الله تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه : لابن عباس ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عز وجل : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا .
ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين ، وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان يقول : بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل ، ونسب إلى أبو بكر الأصم لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لاجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد ، وفي ذلك ابن سيرين ، وإذا جعل لها ثلث ما بقي من فرض الزوج كان لها واحد وللأب اثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن المسألة من اثني عشر لاجتماع الثلث والربع ، فإذا أخذت الأم أربعة بقي للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه ، ورجح مذهب الجمهور على مذهب تفضيل الأنثى على الذكر رضي الله تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء [ ص: 225 ] إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين ، وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع ، وهذا الإفضاء ظاهر في المسألة الأولى ، وبذلك علل ابن عباس حكمه فيها مخالفا زيد بن ثابت ، فقد أخرج لابن عباس عبد الرزاق عن والبيهقي قال : أرسلني عكرمة إلى ابن عباس أسأله عن زوج وأبوين ، فقال زيد بن ثابت زيد : للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وللأب بقية المال، فأرسل إليه أفي كتاب الله تعالى تجد هذا؟ قال : لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب ، ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب ابن عباس ، ومن هنا قال السيد الأصم السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه : إن معنى قوله تعالى : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث هو أن لها ثلث ما ورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه ، وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات : وإن كانت واحدة فلها النصف بعد قوله سبحانه : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك فيلزم أن يكون قوله تعالى : وورثه أبواه خاليا عن الفائدة ، فإن قيل : نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا : ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا ، فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأنثى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقي من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الابن والبنت وكما في حق الأبوين إذا انفردا بالإرث، فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس، فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا ، وليته سمع ذلك فليفهم .
وقد اختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها ، فمذهب وإحدى الروايتين عن ابن عباس ، وروى ذلك أهل الكوفة عن الصديق في صورة الزوج وحده إن للأم ثلث جميع المال ، وقول ابن مسعود أبي يوسف وهو الرواية الأخرى عن رضي الله تعالى عنه : إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب ، والوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى : الصديق فلأمه الثلث في حق الأب ، وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة ، وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة ، وأما في حق الجد فأجري على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الاختلاف فيما بين الصحابة، ولا استحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك امرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب، فإن للمرأة الربع وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي ، فقد فضلت ههنا الأنثى لزيادة قربها على الذكر ، وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الاختلاف في السبب بل مع الاتفاق فيه .
فإن كان له إخوة فلأمه السدس الجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات ، وسواء كانوا من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما . وخالف في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناء على أن الإخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى ، وبهذا حاج ابن عباس عثمان رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج ابن عباس ابن جرير والحاكم في « سننه » عن والبيهقي أنه دخل على ابن عباس فقال : إن الأخوين [ ص: 226 ] لا يردان الأم عن الثلث وتلا الآية ، ثم قال : والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس ، وقال الجمهور : إن حكم الاثنين في باب الميراث حكم الجماعة ، ألا يرى أن البنتين كالبنات ، والأختين كالأخوات في استحقاق الثلثين فكذا في الحجب; وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الاثنين وما فوقهما ، وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الإخوة عليه بل قال جمع: إن صيغة الجمع حقيقة في الاثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب ، فقد أخرج عثمان الحاكم في « سننه » عن والبيهقي أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له : يا زيد بن ثابت أبا سعيد إن الله تعالى يقول : فإن كان له إخوة وأنت تحجبها بأخوين فقال : إن العرب تسمي الأخوين إخوة ، وهذا يعارض الخبر السابق عن فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على اثنين في لغة العرب ، ابن عباس رضي الله تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه احتج بأن إطلاق الإخوة على الأعم كان إجماعا . ومن هنا اختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة ، وصرح بعض الأصوليين أنها في الاثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة ، والنحاة على خلاف ذلك ، وخالف وعثمان أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الإخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب ، والخلص لا ذكور معهم فيغلبون وهو كلام متين إلا أن العمل على اختلافه اعتبارا لوصف الإخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف ابن عباس، وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده . ابن عباس
وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الإخوة لأم لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب ههنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام ، وهو أنه إن كان هناك إخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق ، وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الإخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب ، والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الاسم حقيقة في الأصناف الثلاثة ، وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص ، ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم ، ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الإخوة يحجبون الأم حجب نقصان ، وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان ، ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأب وهو مذهب جمهور الصحابة أيضا ويروى عن قتادة أنه للإخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الإخوة كفارا أو أرقاء ، وقد يستدل عليه بما رواه ابن عباس مرسلا طاوس أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الإخوة السدس مع الأبوين .
وللجمهور كما قال الشريف إن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل : فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي ، ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه ، والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر ، فالإخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب ، ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد ، وليس حال الإخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها ، وقد روي عن أنه قال : لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال : كان ذلك وصية وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث ، والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن طاوس لأنه يوافق ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الصديق فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في « شرح الإمام حجب الجد للإخوة السرخسي » ، وفي « الدر المنثور » أن ، ابن جرير وعبد الرزاق ، [ ص: 227 ] عنه ، وقرأ والبيهقي حمزة ( فلإمه ) بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام ، وقيل : إنه اتباع لكسرة الميم ، وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية ، وقيل : إنه لغة في الأم ، وأنكرها والكسائي ، وفي القاموس الأم- وقد تكسر- الوالدة ، ويقال " للأم " أمة وأمهة وتجمع على أمات وأمهات ، وهذه لمن يعقل ، وأمات لما لا يعقل » وحكي ذلك في « الصحاح » عن بعضهم . الشهاب
من بعد وصية متعلق بيوصيكم والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به ، والمعنى إن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية . وجوز أن يكون حالا من السدس ، والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده ، ويقدر لما قبله مثله كالتنازع ، وقيل : إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء من بعد وصية يوصي بها الميت .
وقرأ ابن عامر وابن كثير عن وأبو بكر ( يوصى ) مبنيا للمفعول مخففا وقرئ عاصم يوصي مبنيا للفاعل مشددا ، والجملة صفة وصية، وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها ، وقيل : التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها ( أو دين ) عطف على ( وصية ) إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة ، وإيثار ( أو ) على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين ، وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه عنه جماعة لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت وقال علي ابن المنير : « إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية ، ثم اقتسام ذوي الميراث ، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية " والوصية " تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية ، والدين صورة الواقع شرعا ، ولو سقط ذكر بعد وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور ، وهو من الحسن بمكان .
آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا الخطاب للورثة ، وآباؤكم مبتدأ ، وأبناؤكم معطوف عليه ، ولا تدرون مع ما في حيزه خبر له ، وأي إما استفهامية مبتدأ ، وأقرب خبره ، والفعل معلق عنها فهي سادة مسد المفعولين ، وإما موصولة ، وأقرب خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته ، وحذف صدر صلته ، والمفعول الثاني محذوف ، ونفعا نصب على التمييز وهو منقول من الفاعلية ، والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية .
والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع ، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات ، أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم؛ أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا ، وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم ، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر، فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور ، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق [ ص: 228 ] أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية ، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل : لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه، فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة ، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا ، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى ، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى ، واختار كثير من المحققين كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة ، وجعل الخطاب للمورثين ، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل; وكانت الأنصباء مختلفة ، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك .
فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل ، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال : إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه ، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم ، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا ، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة ، فقد أخرج الطبراني عن وابن مردويه رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ابن عباس ، وإلى هذا ذهب إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به رحمه الله تعالى ، وخص الحسن النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي . مجاهد
وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة ، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا : لماذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت ، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة ، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك ، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لا تصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق ، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير ، وربما يقال : المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة ، والكلام مسوق لرد ما كان في الجاهلية، فإن أهل الجاهلية كانوا كما قال لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، وعن السدي أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر ، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها، والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها ، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر ، وقيل : إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه ، ونسب إلى أبي مسلم ، ولا يخفى مزيد بعده . ابن عباس
فريضة من الله [ ص: 229 ] مصدر مؤكد لنفسه على حد هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من الله ، وقيل : إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا ، والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من الله تعالى ، وقيل : بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم; وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بد لهذا من دليل ولم نطلع عليه . الرضي
إن الله كان عليما أي بالمصالح والرتب حكيما في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا ، وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة : إني أعلم ما لا تعلمون والخبر عن الله تعالى بمثل هذه الألفاظ كما قال كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ، وقال الخليل : القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا فقيل لهم : إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات فلا حاجة إلى القول بزيادة كان كما ذهب إليه البعض . سيبويه