وثانيها : أنه أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم ، ونسب نحو هذا إلى أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم الحسن وقتادة ومجاهد . وسعيد بن جبير
وروي عن أيضا ما يؤيده ، فقد : أخرج ابن عباس ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية : يعني الرجل يحضره الموت فيقال له : تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين ، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس أو الربع يقول : أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف يعني صغار لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك ، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة ، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر ، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا . والبيهقي
وثالثها : أنه متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم ، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم . أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين
ورابعها : أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ، وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الثلث ويقولون : إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث ، وورد في الخبر ما يؤيده ، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف ، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به ، ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء والورثة بأمر مرضى المؤمنين ، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل : إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك ، وأبعد من ذلك القول : بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد ، ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا : إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى : وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع . الوصية
وذهب الأجهوري وغيره إلى أن لو بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال ، وأوجبوا حمل ( تركوا ) [ ص: 214 ] على المشارفة ليصح وقوع خافوا جزاء له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة ، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع أولادهم ، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم ، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم ، أخرج عن ابن جرير الشيباني قال : كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانئ بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى ، ثم قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك؟ قلت : بلى، فتلا وليخش الذين الآية .
وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم، والظاهر أن من خلفهم ظرف لتركوا ، وفي التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة ، وجوز أن يكون حالا من ( ذرية ) و ( ضعافا ) كما قال : يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة ، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه انحدار ، وكذلك أبو البقاء خافوا يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت; وقرئ ضعفاء ، وضعافى وضعافى ، نحو سكارى وسكارى .
فليتقوا الله في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة وليقولوا لليتامى أو للمريض أو لحاضري القسمة ، أو ليقولوا في الوصية قولا سديدا فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال ، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله ، وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة ، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته أو يزيد مسرته، ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث ، والسديد على ما قال الطبرسي المصيب العدل الموافق للشرع ، وقيل : ما لا خلل فيه ، ويقال سد قوله يسد بالكسر إذا صار سديدا ، وأنه ليسد في القول فهو مسد إذا كان يصيب السداد أي القصد ، وأمر سديد وأسد أي قاصد ، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب ، وكذلك السدد مقصور منه ، وأما السداد بالكسر فالبلغة وما يسد به ، ومنه قولهم : فيه سداد من عوز قاله غير واحد وفي « درة الغواص في أوهام الخواص « أنهم يقولون : سداد من عوز فيفتحون السين وهو لحن والصواب الكسر ، وتعقبه ابن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في « إصلاح المنطق » في باب فعال وفعال بمعنى واحد ، فقال : يقال سداد من عوز وسداد ، وكذا حكاه في « أدب الكاتب » ; وكذا في « الصحاح » إلا أنه زاد والكسر أفصح ، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير ، وأنشد قول ابن قتيبة العرجي :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة " وسداد " ثغر
فليحفظ .