فبما رحمة من الله لنت لهم خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاق الفارين الملامة والتعنيف منه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة ، وشمروا للهزيمة والحرب قائمة على ساق ، أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته ، والباء متعلقة بلنت ، والتقديم للقصر ، وما : مزيدة للتأكيد وعليه أجلة المفسرين ، وهو المأثور عن ، وحكى قتادة الإجماع عليه وفيه نظر ، فقد قال الزجاج وغيره : يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء ، (ورحمة) بدل منها ، وجوز أن تكون صفة لها ، وقيل : إنها استفهامية للتعجب ، والتقدير فبأي رحمة لنت لهم ، والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم ، (ومن) متعلقة بمحذوف وقع صفة لها أي الأخفش فبما رحمة عظيمة كائنة من الله تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم ، ولعل المراد بهذه الرحمة ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيصه له بمكارم الأخلاق ، وجعل الرفق ولين الجانب مسببا عن ربط [ ص: 106 ] الجأش ؛ لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة .
قيل : وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين : إحداهما ما يدل على ، والثانية ما يدل على رفقه فهو من باب التكميل ، وقد اجتمعت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم هاتان الصفتان يوم شجاعته صلى الله تعالى عليه وسلم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه ما عراه ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار ، بل آساهم في الغم ولو كنت فظا أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافيا في المعاشرة قولا وفعلا غليظ القلب أي قاسيه ، وقال : الكلبي فظا في الأقوال غليظ القلب في الأفعال .
وذكر بعضهم أن الفظ سيئ الخلق في الأمور الظاهرة من الأقوال والأفعال ، و غليظ القلب السيئ في الأمور الباطنة ، والثاني سبب للأول ، وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه ، ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاظة وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب ، فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة ، ولهذا ورد : أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية .
وكأنه لبعده صدر بيمكن ، وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو كنت فظا غليظ القلب فلم تلن لهم وأغلظت عليهم لانفضوا من حولك أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك وتردوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط .
فاعف عنهم مترتب على ما قبله أي إذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك واستغفر لهم الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماما للشفقة وإكمالا للتربية وشاورهم في الأمر أي في الحرب . أخرجه من طريق ابن أبي حاتم عن ابن سيرين عبيدة ، وهو المناسب للمقام ، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة ، وإليه ذهب جماعة ، واختلف في فمن أبى الاجتهاد له صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب إلى عدم جوازها ، ومن لا يأباه - وهو الأصح - ذهب إلى جوازها ، وفائدتها الاستظهار برأيهم ، ويؤيد ذلك ما أخرجه مشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن هناك وحي عن الإمام أحمد عبد الرحمن بن غنم لأبي بكر : " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما وعمر " أو التطييب لأنفسهم ، وإليه ذهب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ، فقد أخرج قتادة عنه أنه قال : ابن جرير أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم ، أو أن تكون سنة بعده لأمته ، وإليه ذهب ، فقد أخرج الحسن عنه أنه قال في الآية : قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة ، ولكن أراد أن يستن به من بعده ، ويؤيده ما أخرجه البيهقي ابن عدي في الشعب بسند حسن عن والبيهقي قال : ابن عباس لما نزلت : وشاورهم في الأمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ، ومن تركها لم يعدم غيا " .
وقيل : فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء ، وادعى الجصاص أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس مثلا غير جائز ؛ لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط الصواب عما سئلوا عنه ، ثم لم يكن معمولا به لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم ، بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معول عليها ، وجزم بأنه لا بد أن يكون لمشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم فائدة [ ص: 107 ] هي الاستظهار بما عندهم ، وأن يكون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم معهم ضرب من الاجتهاد ، فما وافق رأيه عمل به ، وما خالفه ترك من غير لوم ، وفيه إرشاد للاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل اجتهاد ، وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى انتهى .
وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييبا لنفسه وتنشيطا لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحيانا ، وإن لم يكن العمل برأيه الموافق ، بل العمل بالرأي الموافق ، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولا به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى ، على أن من قال : إن فائدة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها ، وحينئذ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي ، والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع الوحي ، ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى ، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعارا بأن الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع ؛ لأن أمر السلطان مثلا لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك ، بل لا يكاد أن يكون ذلك مرادا أصلا ، بل المراد أن يشاور أهل الآراء منهم والمتدربين فيهم ، وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعى ، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين .
ويؤيد كون المراد من الصحابة المأمور صلى الله تعالى عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقا بما أخرجه وصححه ، الحاكم في سننه عن والبيهقي أنه قال في ابن عباس وشاورهم في الأمر : أبو بكر ، ومن طريق وعمر عن الكلبي أبي صالح عن أن الآية نزلت فيهما ، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم ، وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه ، لكن الحبر الجصاص لم يبن كلامه على ذلك .
بقي أن بين ما أخرجه من الإمام أحمد ، وما أخرجه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما : لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما ابن عدي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول الآية : " والبيهقي أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي " تنافيا إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما ، وأن اجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقا لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل ، وكأن في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما خالفتكما دون لعملت بقولكما مثلا نوع إشعار بما قلنا فتدبر .
وقرأ كما أخرج ابن عباس في الأدب المفرد عنه البخاري وشاورهم في بعض الأمر فإذا عزمت أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء .
فتوكل على الله أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح ، وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه ، وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب ، بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه ، و (اعقلها وتوكل) يرشد إلى ذلك ، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال التدبير بالكلية ، وعن خالد بن زيد أنه قرأ (فإذا عزمت) بصيغة المتكلم والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحدا ، والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر [ ص: 108 ] به ، فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكلام مستدع للتوكل عليه سبحانه والأمر به .
إن الله يحب المتوكلين عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة ، والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه ، وقد روعي في الآية حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان ، فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما ، ثم أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والانقطاع إليه لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ، ولا تنقضي الحاج إلا عند بابه .