قل للذين آمنوا يغفروا حذف المقول لدلالة يغفروا عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله أي يعفوا ويصفحوا عن [ ص: 147 ] الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم: أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن أو لا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها. مجاهد
وقال بعضهم: لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس . والمهدوي عن أنها نزلت في ابن عباس رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك عمر بمكة قبل الهجرة فهم أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن وهذا ظاهر في كونها مكية كأخواتها. وإرادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين مقاتل بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه.
وهذا أولى في الجواب من أن يقال: إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه، نعم قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبي غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب عمر رضي الله تعالى عنه فقال ابن أبي : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فبلغ ذلك أبي بكر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية وحكاه الإمام عن عمر وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ابن عباس قال: إن ميمون بن مهران فنحاصا اليهودي قال: لما أنزل الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا احتاج رب محمد فسمع بذلك رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في طلبه حتى رده ونزلت الآية عمر ليجزي قوما بما كانوا يكسبون تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازى عليه، والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم.
وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر ههنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، وما في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيئاتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير: وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلفا وأشد تمحلا، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن قال: كنا بين يدي سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه فقرأ قارئ هذه الآية فقال: ليجزي عمر بما صنع، وقرأ عمر . زيد بن علي وأبو عبد الرحمن . . [ ص: 148 ] والأعمش وأبو خليد . . وابن عامر . وحمزة (لنجزي) بنون العظمة، وقرئ (ليجزى) بالياء والبناء للمفعول (قوم) بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ والكسائي شيبة. بخلاف عنه كذلك إلا أنهما نصبا (قوما) وروي ذلك عن وأبو جعفر ، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول: ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب الفاعل ههنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزى هو أي الجزاء، ورد بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى عاصم جزاؤهم عند ربهم جنات عدن وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه: ولأبويه والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك، اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن (قوما) منصوب بأعني أو جزى مضمرا لدلالة المجهول على أن ثم جازيا واختاره وأبو البقاء و (ليجزي) حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان.
أبو حيان