وقرأ (وبشر) مبنيا للمفعول، وهو معطوف على (أعدت) كما اشتهر، وقيل : إنه خبر بمعنى الأمر، فتوافق القراءتان معنى وعطفا، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح، لكن لا لذاتهما، بل بجعل الشارع، ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان، وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين، لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه، فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي زيد بن علي المعتزلة ، على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق (آمنوا) مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، والصالحات جمع صالحة، وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحا، وصلاحا خلاف فسدت ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف، وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة، وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسما، وأل فيها للجنس، لكن لا من حيث تحققه في الأفراد، إذ ليس ذلك في وسع المكلف، ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد، بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية، وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا، أو عمل عملا واحدا غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات، إن وجب قليلا كان أو كثيرا، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء، أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعا في المشهور، كركب القوم دوابهم، إذ قد يطلق أيضا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد كالمثال أو الجمع الواحد كدخل الرجال مساجد محلاتهم، أو العكس كلبس القوم ثيابهم، ومنه " واغسلوا وجوهكم وأيديكم " والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع، أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار أراد سبحانه بأن لهم إلخ لتعدي البشارة بالباء، فحذف لاطراد حذف الجار مع أن، وأن بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره، ولام الجر للاستحقاق، وكيفيته مستفداة من خارج، ولا استحقاق بالذات، فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه، فضلا وكرما، لكن بشرط الموت على الإيمان، والجنة في الأصل المرة من الجن بالفتح مصدر جنه إذا ستره ، ومدار التركيب على الستر، ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه، أو كل أرض فيها شجر ونخل [ ص: 202 ] فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها، ووردت في شعر الأعشى بمعنى النخل خاصة، ثم نقلت، وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب، إذ فيها من النعيم (ما لا، ولا) مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات، ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى، ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال، والعمال، وما نقل عن رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفاظ، وتنوينها إما للتنويع، أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير، وهو أسر للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة كـ ابن عباس إن لنا لأجرا وتحت، ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من، كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات، فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة، وإن أريد الأرض قيل: من تحت أشجارها، أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما، ونحوه، وقيل : إن تحت بمعنى جانب كداري تحت دار فلان، وضعف كالقول: من تحت أوامر أهلها، وقيل : منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية، كما قيل بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق الجنة على الكل، والوارد في الأثر الصحيح عن إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة، وأحلى في المنظر، وأبهج للنفس مسروق:
وتحدث الماء الزلال مع الحصى فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
والأنهار جمع نهر بفتح الهاء، وسكونها، والفتح أفصح ، وأصله الشق، والتركيب للسعة، ولو معنوية كنهر السائل، بناء على أنه الزجر البليغ، فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء، أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان : أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها، أو ماؤها، وتأنيث تجري رعاية للمضاف إليه، أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص، أو في الظرف، (أو لا، ولا)، والإسناد مجازي، وأل للعهد الذهني قيل : أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى : فيها أنهار من ماء الآية، فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية، نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد ، وقيل : عوض عن المضاف إليه، أي أنهارها، وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى: يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة، فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطئ الأنهار، وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل صفة ثانية لجنات، أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها، أو خبر مبتدإ محذوف، أي هم، والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدإ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة، صورة لاسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال، كأنه قيل : ما حالهم في تلك الجنات؟ فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة، وأزواجا نظيفة، وهم فيها خالدون، وتقدير المبتدإ هو أو هي للشأن، أو القصة، ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات، والجملة خبر، إلا أن التناسب أنسب، أو جملة مستأنفة، كأنه لما وصف الجنات بما ذكر، وقع في الذهن أن ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا، فبين حالها، ولهم فيها أزواج زيادة في الجواب، ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار؟ أم أتم وأزيد؟ كان أصح وأوضح [ ص: 203 ] وأجاز كونها حالا من الذين، أو من جنات، لوصفها، وهي حينئذ حال مقدرة ، والأصل فيها المصاحبة، والقول : بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع، وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت، وإلا لاحتاج إليه، ولا قطع مع الحاجة، (وكلما) نصب على الظرفية بـ(قالوا)، (ورزقا) مفعول ثان، لـ(رزقوا)، كرزقه مالا، أي أعطاه، وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله، لأنه بمعنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع، أو للتعظيم، أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه، (ومن) الأولى والثانية للابتداء، قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو إلى، وهما ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل، وصاحب الأولى (رزقا)، والثانية ضميره المستكن في الحال، والمعنى: كل حين رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمره، والشائع كونهما لغوا، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة، وجعل بمنزلة أن تقول: أعطاني فلان، فيقال: من أين؟ فتقول : من بستانه، فيقول : من أي ثمرة؟ فتقول : من الرمان، وتحريره أن (رزقوا) جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين، لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد، والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية، وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد، والمراد من الثمرة - على هذا - النوع كالتفاح والرمان، لا الفرد، لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة منه، لا جميعه، وهو ركيك جدا، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق، والظرف الأول لغو، والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه، وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها، ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع، وعلى الجنأة الواحدة، ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، ورزقا مصدر مؤكد أو في موقع الحال، من (رزقا) لبعده مع أن الأصل التبيين، والابتداء، فلا يعدل عنهما إلا لداع، على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها، أو ما بعدها جزأ لمجرورها، لا جزئيا، فتأتي الركاكة ها هنا، وجمع سبحانه بين (منها) و(من ثمرة)، ولم يقل: من ثمرها، بدل ذلك، لأن تعلق (منها) يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها، لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق (من ثمرة) يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا، ويكفي إحساس أفراده، وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جار: هذا الماء لا ينقطع، أو إلى شخصه، والإخبار عنه (بـالذي) إلخ، على جعله عينه مبالغة، أو تقدير: مثل الذي رزقناه من قبل، أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب، وتطلب زيادته. أبو البقاء
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا