لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
وقرئ (عبادنا) فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأمته، لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع، فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أول مقصود، وأسبق داخل، لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله، لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه، وبعضهم جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم، وإلا لقال سبحانه: مما نزل على عبده، لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه، لا سيما وقد أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من (فأتوا) جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز، وإلقام الحجر كما في قوله تعالى : فأت بها من المغرب وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر، والأعيان والأعراض، ثم صار بمعنى الفعل، والتعاطي كـ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى وأصل فأتوا فأتيوا، فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل: ت، وتوا، والتنوين في سورة للتنكير، أي ائتوا بسورة ما، وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.(ومن مثله) إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة، والضمير راجع إما (لما) التي هي عبارة عن المنزل، أو للعبد، وعلى الأول يحتمل أن تكون (من) للتبعيض، أو للتبيين، يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز، وهذا على الأخيرين ظاهر، وإما على التبعيض، فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن، بل ما يماثله فرضا، كما قيل : في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة [ ص: 194 ] لمماثلتها للقرآن، فذكر اللازم، وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ (من) التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا، حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة، إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون (من) للابتداء مثلها في والأخفش إنه من سليمان ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة فأتوا.
والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمير للعبد، لأن (من) لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرا أبدا، لا تتعلق بالأمر لغوا، ولا تبعيضية، وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في: أخذت من الدراهم، ولا معنى لإتيان البعض، بل المقصد الإتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود (من)، ولأنه يلزم أن يكون بسورة ضائعا، فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفا للإتيان بالكلام منه معنى، حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه، فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضا المعتبر في مبدإ الفعل هو المبدأ الفاعلي، أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها، وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام.
واعترض بأن معنى (من) لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " وجعلنا منكم ملائكة " وللمجاوزة: كعذت منه، فعلى هذا، لو علق (من مثله) بـ(فأتوا)، وحمل (من) على البدل، أو المجاوزة، ومثل على المقحم، ورجع الضمير إلى (ما أنزلنا) على معنى (فأتوا) بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره، وجلالة قدره بسورة فذة لكان أبلغ في التحدي، وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدإ ممنوع، فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول : وبمنزلة المكان ما ليس بمكان، ولا زمان نحو: قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار، وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال وهو الذي اختاره مولانا سيبويه : إن المراد من الآية التحدي، وتعجيز بلغاء الشهاب العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم : معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا، إذا كان (من مثله) صفة سورة، سواء كان الضمير لما، أو للعبد، لأن معناه: ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد مثل هذا العبد في البشرية، فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله، أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل، ومثل الشيء غيره، فهو من كلام البشر أيضا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد، فمعناه أيضا ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله، فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه ائتوا من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن (من) ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا، ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه، فهي ابتدائية، والمبدأ ليس فاعليا، بل ماديا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعى وجوده، وهو خلاف الواقع، وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتض، أولا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له ! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد و(ما) على تقديري: اللغو والاستقرار [ ص: 195 ] أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة، والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي، ولا أزكي نفسي، أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجاربردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل، وقد وفقت للوقوف على كثير منها، والحمد لله، ونقلت نبذة منها في الأجوبة العراقية، ثم أولى الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة، والضمير للمنزل، ومن بيانية، أما أولا فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي، كقوله تعالى : فأتوا بسورة مثله لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به، وأما ثانيا فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه، وذكره إنما وقع تبعا، ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة، وهو عمدة التحدي، وإن فهم، وأما ثالثا فلأن أمر الجم الغفير، لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم، أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي بمثل ما أتى به رجل آخر، وأما رابعا فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس، ولم يكتب، لا أنه في نفسه معجز، مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله تعالى عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد، وبأن الكلام مسوق للمنزل عليه، إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة، والحجة ذريعة، فلا يلزم من الافتتاح بذكر (ما نزلنا)، أن يكون الكلام مسوقا له، وبأن التحدي على ذلك أبلغ لأن المعنى: اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب، ولم يدرس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة، بل هي أقوى في الإفحام، إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية، وإن كان بينهما بون، إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا، ولا يخفى أنه صرح ممرد، ونحاس مموه، وظاهر السياق يؤيد ما قلنا، ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى، وقوله تعالى : وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز، أو كناية مبنية على النداء، لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه أغير الله تدعون والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال : كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفا، وجاء بمعنى الحاضر والقائم بالشهادة، والناصر والإمام أيضا، ودون ظرف مكان، لا يتصرف، ويستعمل بمن كثيرا، وبالباء قليلا، وخصه في البحر بمن (دونها)، ورفعه في قوله : الراغب
ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت دونها
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
الود للقربى ولكن عرفه للأبعد الأوطان دون الأقرب