إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أخرج الستة وغيرهم عن رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن مسعود الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا فقال لليهودي: احلف، فقلت: يا رسول الله إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى إن الذين " الخ، وأخرج " من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فقال وغيره عن البخاري عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية، وأخرج أحمد واللفظ له عن وابن جرير عدي بن عميرة قال: امرئ القيس ورجل من حضرموت [ ص: 204 ] خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي: بينتك وإلا فيمينه، قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان، فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال: الجنة، قال: فإني أشهدك أني قد تركتها، فنزلت"، وأخرج " كان بين عن ابن جرير قال: نزلت هذه الآية في عكرمة أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه.
والمراد ب (يشترون) يستبدلون، وبالعهد أمر الله تعالى وما يلزم الوفاء به، وقيل: ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق، و (بالأيمان) الأيمان الكاذبة، و بالثمن القليل الأعواض النزرة أو الرشا، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب.
أولئك لا خلاق لهم في الآخرة أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال ولا يكلمهم الله أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم، قاله أو لا يكلمهم بشيء أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده، واستظهر أن يكون هذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم. الجبائي،
ولا ينظر إليهم يوم القيامة أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل انظر إلي يريد ارحمني، وجعله مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر، وفي «الكشف» إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد، وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أولا غير واضحة بخلاف المعنى المكنى عنه، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى: الزمخشري بل يداه مبسوطتان مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده، فلا تناقض بينهم كما توهموه، فتدبر، والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد.
ولا يزكيهم أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة، قاله القاضي، وقال لا ينزلهم منزلة الأزكياء، وقيل: لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة الجبائي: ولهم عذاب أليم [ 77 ] أي مؤلم موجع، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاء بالأول، وقيل: إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناء على أن الآية في اليهود.