وأصله طغيوت، أو طغووت من الياء، أو الواو، لأن طغى يطغى ويطغو كلاهما ثابتان في العربية، نقله الجوهري ، ونقل أن الطغيان والطغوان بمعنى، وكذا ، وجمعه على الطواغيت يدل على أن الجمع بني على الواو، وقولهم: من الطغيان لا يريدون به خصوص الياء، بل أرادوا المعنى، وهو على ما في الصحاح: الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقال الراغب : هو عبارة عن كل متعد، وكل معبود من دون الله تعالى، وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن الخير، ويستعمل في الواحد والجمع. الراغب
وقال في هذه السورة: لا يطلق على غير الشيطان، وذكر أن فيه مبالغات من حيث البناء، فإن صيغة فعلوت للمبالغة، ولذا قالوا: الرحموت الرحمة الواسعة، ومن حيث التسمية بالمصدر، ومن حيث القلب، فإنه للاختصاص كما في الجاه، وقد أطلقه في النساء على الزمخشري كعب بن الأشرف، وقال: سمي طاغوتا، لإفراطه في الطغيان، وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على التشبيه بالشيطان، فلعله أراد: لا يطلق على غير الشيطان على الحقيقة، وكأنه جعل كعبا على الأول من الوجهين من شياطين الإنس، وفي الكشف: كأنه لما رآه مصدرا في الأصل منقولا إلى العين كثير الاستعمال في الشيطان حكم بأنه حقيقة فيه بعد النقل مجاز في الباقي لظهور العلاقة، إما استعارة، وإما نظر إلى تناسب المعنى، والذي يغلب على الظن أن الطاغوت في الأصل مصدر نقل إلى البالغ الغاية في الطغيان، وتجاوز الحد، واستعماله في فرد من هذا المفهوم العام شيطانا كان أو غيره يكون حقيقة، ويكون مجازا على ما قرروا في استعمال العام في فرد من أفراده كاستعمال الإنسان في زيد، وشيوعه في الشيطان ليس إلا لكونه رأس الطاغين، وفسره هنا بالشيطان ، ويجوز تفسيرها بالشياطين جمعا على ما سمعت عن الراغب، ويؤيده قراءة مجاهد "اجتنبوا الطواغيت"، الحسن أن يعبدوها بدل اشتمال من الطاغوت، وعبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان، إذ هو الآمر بها والمزين لها، وإذا فسر الطاغوت بالأصنام فالأمر ظاهر، وأنابوا إلى الله وأقبلوا إليه سبحانه معرضين عما سواه إقبالا كليا، لهم البشرى بالثواب من الله تعالى على ألسنة الرسل - عليهم السلام - أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون، وبعد ذلك.
فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه مدح لهم بأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن، والأحسن، والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب.
[ ص: 253 ] وقيل: يستمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والانتصار والإغضاء والإبداء والإخفاء، لقوله تعالى: وأن تعفوا أقرب للتقوى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم والفرق بين الوجهين أن هذا أخص لأنه مخصوص بأوامر فيها تخيير بين راجح وأرجح، كالعفو والقصاص مثلا، كأنه قيل: يتبعون أحسن القولين الواردين في معين، وفي الأول يتبعون الأحسن من القولين، مطلقا، كالإيجاب بالنسبة إلى الندب مثلا.
وعن يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون القول ممن كان فيتبعون أولاه بالقبول، وأرشده إلى الحق، ويلزم من وصفهم بذلك أنهم يميزون القبيح من الحسن، ويجتنبون القبيح، وأريد بهؤلاء العباد الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، لئلا ينفك النظم، فإن قوله تعالى: الزجاج فبشر مرتب على قوله سبحانه: لهم البشرى ووضع الظاهر موضع الضمير ليشرفهم تعالى بالإضافة إليه، ولتكرير بيان الاستحقاق، وليدل على أنهم نقادون حرصا على إيثار الطاعة ومزيد القرب عند الله تعالى، وفيه تحقيق للإنابة، وتتميم حسن، وقيل: الوقف على "عبادي"، فيكون الذين مبتدأ، خبره جملة قوله تعالى: أولئك الذين هداهم الله أي لدينه، والكلام استئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث، وما تقدم أرجح لما سلف من الفوائد من إقامة الظاهر مقام المضمر، والتتميم، فإن ذلك دون الوصف لا يتم، ولأن محرك السؤال المجاب بالجملة بعد قوله تعالى: فيتبعون أحسنه أقوى، وذلك الأصل في حسن الاستئناف، وأولئك هم أولو الألباب أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم، وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض، ولذا قيل:
شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها، كما ذهب إليه الأشاعرة ،