الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أمن هو قانت آناء الليل إلخ، من تمام الكلام المأمور به في قول، (وأم) إما متصلة قد حذف معادلها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه، كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به: أأنت أحسن حالا ومآلا، أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادة أقرب إلى القبول [ ص: 246 ] وأبعد عن الرياء حالتي السراء، والضراء، لا عند مساس الضر فقط، كدأبك حال كونه ساجدا وقائما وإلى كون المحذوف المعادل الأول ذهب الأخفش ووافقه غير واحد، ولا بأس به عند ظهور المعنى لكن قال أبو حيان : إن مثل ذلك يحتاج إلى سماع من العرب ، ونصب ساجدا وقائما على الحالية كما أشير إليه أي جامعا بين الوصفين المحمودين وصاحب الحال الضمير المستتر في قانت .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز كون الحال من ضمير يحذر الآتي قدم عليه، ولا داعي لذلك. وقرأ الضحاك "ساجد وقائم" برفع كل على أنه خبر بعد خبر، وجوز أبو حيان كونه نعتا لقانت، وليس بذاك، والواو كما أشير إليه للجمع بين الصفتين، وترك العطف على قانت قيل: لأن القنوت مطلق العبادة فلم يكن مغايرا للسجود، والقيام، فلم يعطفا عليه بخلاف السجود والقيام فإنهما وصفان متغايران، فلذا عطف أحدهما على الآخر، وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة، وذهب المعظم إلى أنه أفضل من القيام لحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، وقوله تعالى: يحذر الآخرة حال أخرى على التداخل أو الترادف، أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية حاله، كأنه قيل: ما باله يفعل ذلك؟ فقيل: يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة كما قرأ به ابن جبير.

                                                                                                                                                                                                                                      ويرجو رحمة ربه فينجو بذلك مما يحذره، ويفوز بما يرجوه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي، لا أنه يحذر ضر الدنيا، ويرجو خيرها فقط، وإما منقطعة، وما فيها من الإضراب للانتقال من التبكيت بتكليف الجواب الملجئ إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل: بل أمن هو قانت إلخ، وقدر الزمخشري كغيره: مثلك أيها الكافر. وقال النحاس: بمعنى بل، ومن بمعنى الذي، والتقدير: بل الذي هو قانت إلخ، أفضل مما قبله، وتعقبه في البحر بأنه لا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل، بل يقدر الخبر: من أصحاب الجنة، لدلالة مقابله، أعني إنك من أصحاب النار عليه، ولا يبعد أن يقدر: أفضل منك، ويكون ذلك من باب التهكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والأعمش ، وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية "أمن" بتخفيف الميم، وضعفها الأخفش ، وأبو حاتم ، ولا التفات إلى ذلك، وخرجت على إدخال همزة الاستفهام التقريري على من، والمقابل محذوف، أي الذي هو قانت إلخ، خير أم أنت أيها الكافر، ومثله في حذف المعادلة قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      دعاني إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها



                                                                                                                                                                                                                                      فإنه أراد أم غي؟ وقال الفراء : الهمزة للنداء، كأنه قيل: يا من هو قانت، وجعل قوله تعالى: قل خطابا له، وضعف هذا القول أبو علي الفارسي، وهو كذلك، وقوله تعالى: قل على معنى: قل له أيضا بيانا للحق، وتصريحا به، وتنبيها على شرف العلم والعمل، هل يستوي الذين يعلمون فيعملون بمقتضى علمهم، ويقنتون الليل سجدا وركعا يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم، والذين لا يعلمون فيعملون بمقتضى جهلهم، وضلالهم كدأبك أيها الكافر الجاعل لله تعالى أندادا، والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر، ويعلم مما ذكرنا [ ص: 247 ] أن المراد بالذين يعلمون العاملون من علماء الديانة، وصرح بإرادة ذلك بعض الأجلة على تقديري الاتصال والانقطاع، وأن الكلام تصريح بنفي المساواة بين القانت وغيره المضمنة من حرفي الاستفهام أعني الهمزة، وأم على الاتصال، أو من التشبيه على الانقطاع، وعلى قراءة التخفيف أيضا قال: وإنما عدل إلى هذه العبارة دلالة على أن ذلك مقتضى العلم وأن العلم الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى، سواء جعل من باب إقامة الظاهر مقام المضمر للإشعار المذكور، أو استئناف سؤال تبكيتي توضيحا للأول من حيث التصريح، ومن حيث إنهم وصفوا بوصف آخر يقتضي اتصافهم بتلك الأوصاف، ومباينتهم لطبقة من لا يتصف. وهذا أبلغ وأظهر لفظا لقوله تعالى: قل وجوز أن يكون الكلام واردا على سبيل التشبيه، فيكون مقررا لنفي المساواة لا تصريحا بمقتضى الأول، أي كما لا استواء بين العالم وغيره عندكم من غير ريبة، فكذلك ينبغي أن لا يكون لكم ارتياب في نفي المساواة بين القانت المذكور وغيره، وكونه للتصريح بنفي المساواة، وحمل الذين يعلمون على العاملين من علماء الديانة على ما سمعت مما لا ينبغي أن يختار غيره لتكثير الفائدة، وأما من ارتاب في ذلك الواضح فلا يبعد منه الارتياب في هذا الواضح أيضا بجوابه أن الاستنكاف عن الجهل مركوز في الطباع بخلاف الأول، ويشعر كلام كثير أن قوله تعالى: أمن هو إلخ، غير داخل في حيز القول والمعنى عليه كما في الأول بتغيير يسير لا يخفى، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تلا: أمن هو قانت الآية، فقال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد في طبقاته، وابن مردويه، وابن عساكر، عن ابن عباس : أنها نزلت في عمار بن ياسر، وأخرج جويبر عنه: أنها نزلت في عمار، وابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وعن عكرمة: الاقتصار على عمار، وعن مقاتل : المراد بمن هو قانت عمار، وصهيب، وابن مسعود ، وأبو ذر، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس : وأبو بكر وعمر، وقال يحيى بن سلام: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين، ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت، وفيها دلالة على فضل الخوف والرجاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج الترمذي، والنسائي ، وابن ماجه عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل، وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو وأخاف، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو، وآمنه الذي يخاف.

                                                                                                                                                                                                                                      وفيها رد على من ذم العبادة خوفا من النار، ورجاء الجنة، وهو الإمام الرازي كما قال الجلال السيوطي ، نعم العبادة لذلك ليس إلا مذمومة، بل قال بعضهم بكفر من قال: لولا الجنة والنار ما عبدت الله تعالى، على معنى نفي الاستحقاق الذاتي، وفيها دلالة أيضا على فضل صلاة الليل وأنها أفضل من صلاة النهار، ودل قوله تعالى: هل يستوي إلخ، على فضل العلم، ورفعة قدره، وكون الجهل بالعكس. واستدل به بعضهم على أن الجاهل لا يكافئ العالمة، كما أنه لا يكافئ بنت العالم، وقوله تعالى: إنما يتذكر أولو الألباب كلام مستقل غير داخل عند الكافة في الكلام المأمور، وارد من جهته تعالى بعد الأمر بما تضمن القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار     ماذا تحيون من نؤي وأحجار



                                                                                                                                                                                                                                      وهو أيضا كالتوطئة لأفراد المؤمنين بعد بالخطاب، والإعراض عن غيرهم، أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل، وأما هؤلاء فبمعزل عن ذلك. وقرئ (يذكر) بالإدغام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية