وقوله تعالى: إذ قال ربك للملائكة إلخ، شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول، فهو بدل من إذ يختصمون بدل كل من كل، وجوز كونه بدل بعض، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه: إذ قال ربك إلخ، لأن تكليمه تعالى إياهم كل بواسطة الملك، فمعنى المقاولة بين الملإ الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة - عليهم السلام - في شأن الاستخلاف، ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله: أنبئهم بأسمائهم ، ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد، فالكل حقيقة لأن الملأ الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة، وهو - عز وجل - مقاول بالمجاز، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس، وما يقال: إن قوله تعالى: إذ قال ربك يقتضي بأن يكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة، فهو ممنوع، لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها، والغرض أن تعلم القصة، لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء، فذلك غير لازم ولا مراد، ثم فيه فائدة جليلة، وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه تعالى أيضا، وأريد هذا المعنى من هذا إلا يراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفا، وجعل الله - عز وجل - من الملإ الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر، ليكون الاختصام قائما به تعالى، وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له - عز وجل - ينبو المقام عنه نبوا ظاهرا، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة - عليهم السلام - لتتم المقاولة اختصارا بما كرر مرارا، ولهذا لم يقل جل شأنه: إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة.
وروعي هذا النسق ها هنا لنكتة سرية، وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة ، وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى، فكيف يكون حالهم، وهم مغمورون في المعاصي، وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم، وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة، وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف، ليفرق بين المقاولتين، وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده، فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم - عليه السلام - ضمنا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم، وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له، قاله صاحب الكشف، وهو حسن، بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مرارا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة، وفيه: أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة، لأنها مدنية، وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله، ولعل القصة كانت معلومة سماعا منه صلى الله عليه وسلم، وكان عالما بها بواسطة الوحي [ ص: 223 ] وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآنا، فاختصرت ها هنا، لما ذكر في الكشف اكتفاء بذلك، وقال فيه أيضا: وذلك أن تقول: التقاول بين الملائكة وآدم - عليهم السلام - حيث قال: أنبئوني بأسماء هؤلاء تبكيتا لهم بما نسبوا إليه من قولهم: أتجعل فيها وبينه، وبين إبليس، إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت، بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفردا في الذكر، أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع، وأسمعه ما أسمع.
وقوله تعالى: إذ قال ربك إلخ، للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها، فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأنه من المقاولين، وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى، وهذا أقل تكلفا مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك، إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا، وعلى أصل المعتزلة أيضا، لا سيما إذا جعل المبكتون الملائكة كلهم، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال إذ قال ربك من إذ يختصمون على وجه بين، والاعتراض بأنه لو كان بدلا لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله: ما كان لي من علم فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح، فإنه على أسلوب قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم " الذي جعل لكم الأرض " فالخطاب: بلكم نظرا إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم، وذنبه كذلك ها هنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا على نحو ما يقول مخاطبك: جاءني الأمير، فتقول: الذي أكرمك وحباك، أو يقول: رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول: يوم خلع عليك الخلعة الفلانية، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء، وأن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى، وجوز أن يقول: إن إذ قوله تعالى: إذ قال ربك ظرف ليختصمون، والمراد بالملإ الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء في مقابلة قوله تعالى: إني جاعل في الأرض ، إلى غير ذلك، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملإ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك، ولا تقدم تفصيل الاختصام مطلقا، بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآنا أم لا، ويرجح تفسير الملإ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم - عليه السلام - أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء، وهو ظاهر في أنه - عليه السلام - خلق في السماء، أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض، وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس، وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع: أن آدم - عليه السلام - إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضا، وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك، ولم يجب عن شيء منها فتدبر. وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة، وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات.
فقد أخرج وصححه، الترمذي، ، وغيرهما عن والطبراني قال: معاذ بن جبل محمد، قلت: لبيك ربي، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي، فوجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء، وعرفته، فقال: يا محمد، قلت: لبيك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجات، والكفارات، فقال: ما الدرجات؟ فقلت: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل، والناس نيام، قال: صدقت، فما الكفارات؟ قلت: إسباغ الوضوء في المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ونقل الأقدام [ ص: 224 ] إلى الجماعات، قال: صدقت، سل يا محمد، فقلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: تعلموهن، وادرسوهن، فإنهن حق". "احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا، فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم دعا بصوته، فقال: على مصافكم ثم التفت إلينا ثم قال: أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة، إني قمت الليلة، فقمت، وصليت ما قدر لي، ونعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي - تبارك وتعالى - في أحسن صورة، فقال: يا
ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه، ولا يخفى أن حمل الاختصام في الآية على ما ذكر بمراحل عن السياق، فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشركون له - عليه الصلاة والسلام - أصلا، نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام، وجعل هؤلاء - إذ - في إذ قال منصوبا باذكر مقدرا، وكذا كل من قال: إن الاختصام ليس في شأن آدم - عليه السلام - يجعله كذلك.
والشهاب الخفاجي قال: الأظهر أي مطلقا تعلق (إذ) باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى إذ يختصمون على عمومه، ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه، وليشمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات، ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن (ربي) إلى ربك انتهى، وفيه شيء لا يخفى.
ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه: أنه عبارة عن مناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض، ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل، والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن آدم - عليه السلام - والرد به حاصل أيضا، والمراد بالملائكة في إذ قال ربك للملائكة ما يعم إبليس، لأنه إذ ذاك كان مغمورا فيهم، ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملإ الأعلى على القول بالاتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان، أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر، فيلطف جدا قوله سبحانه: إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين وقيل: عبر بذلك إظهارا للاستغراق في المقول له، والمراد: إني خالق فيما سيأتي، وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف، والبشر الجسم الكثيف يلاقي ويباشر، أو بادي البشرة ظاهر الجلد غير مستور بشعر، أو وبر أو صوف، والمراد به آدم - عليه السلام - وذكر هنا: خلقه من طين، وفي آل عمران: خلقه من تراب، وفي الحجر: من صلصال من حمإ مسنون، وفي الأنبياء: من عجل، ولا منافاة، غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة، وفي بعض المادة البعيدة، ثم إن ما جرى عند وقوع المحكي ليس اسم البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ، فضلا عن تسميته به، بل عبارة كاشفة عن حاله، وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية.