أخرج أحمد ، عن وعبد بن حميد يونس بن حبان أن داود - عليه السلام - بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال: يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي علي كما هي، فنودي: يا داود أجائع فتطعم؟ أم ظمآن فتسقى؟ أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة، فغفر له عند ذلك.
وفي رواية في زوائد الزهد، عن عبد الله بن أحمد أنه خر ساجدا أربعين ليلة، حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه، ثم قال: إلخ. مجاهد
وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له: إيشا على ملكه، ودعا إلى نفسه، فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
وأخرج عن أحمد، ثابت أنه - عليه السلام - اتخذ سبع حشايا، وحشاهن من الرماد حتى أنفذها دموعا، ولم يشرب شرابا إلا مزجه بدمع عينيه، وأخرج عن أنه اعتزل النساء، وبكى حتى رعش، وخددت الدموع في وجهه، ولم ينقطع خوفه - عليه السلام - وقلقه بعد المغفرة، فقد أخرج وهب أحمد، والحكيم الترمذي، عن وابن جرير، عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه، لكي لا ينساها، وكان إذا رآها اضطربت يداه.
وأخرج وغيره عن أحمد ثابت، عن صفوان، من طريق وعبد بن حميد عطاء بن السائب، عن أبي عبد الله الجدلي: ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات، وإن له عندنا لزلفى قربة بعد المغفرة. وحسن مآب وحسن مرجع في الجنة، وأخرج ، عن عبد بن حميد أنه قال في الآية: يدنو من ربه سبحانه حتى يضع يده عليه، وهو إن صح من المتشابه. عبيد بن عمير
وأخرج في الزهد، أحمد والحكيم الترمذي، وابن المنذر، ، عن وابن أبي حاتم أنه قال فيها: يقام مالك بن دينار داود - عليه السلام - يوم القيامة عند ساق العرش، ثم يقول الرب عز وجل: يا داود، مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في [ ص: 185 ] الدنيا، فيقول: يا رب، كيف وقد سلبته؟ فيقول: إني راده عليك اليوم، فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة.
هذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب، فقيل: إنه - عليه السلام - رأى امرأة رجل يقال له: أوريا من مؤمني قومه - وفي بعض الآثار أنه وزيره - فمال قلبه إليها، فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده، ففعل فتزوجها، وهي أم سليمان، وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل عن إحداهما لمن اتخذه أخا له من المهاجرين لكنه - عليه السلام - لعظم منزلته وارتفاع مرتبته، وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته، ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه، بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه، ويصبر على ما امتحن به، وقيل: إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها، وإليه مال ابن حجر في تحفته.
وقيل: لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو، فآثره - عليه السلام - أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك، ولم يكن عالما بخطبة أخيه، فعوتب على ترك السؤال، هل خطبها أحد أم لا؟ وقيل: إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها، إلا أن يرغبوا عن التزوج بها، فلما قتل أوريا خطب امرأته ظانا أن أولياءه رغبوا عنها، فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها. وقيل: إنه كان في عبادة، فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها، وهو نظر مباح، فمالت نفسه ميلا طبيعيا إليها، فشغل عن بعض نوافله، فعوتب لذلك، وقيل: إنه لم يتثبت في الحكم، وظلم المدعى عليه، قبل سؤاله لما ناله من الفزع، وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة، إما على ظاهر ما قص، أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة، ونقل هذا عن والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال بمنصب النبوة، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه السلام. أبي مسلم،
ولذا قال كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب: من حدث بحديث علي داود - عليه السلام - على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين، وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين.
وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه، ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم - عليهم السلام - سادة السادة، وهو وجه مستحسن إلا أن الزين العراقي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقال : الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه، إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه - عز وجل - فلما اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى، وأن أبو حيان داود - عليه السلام - ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت، ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف، ولم يكن ليقع مظنونه، وخر ساجدا ورجع إلى الله تعالى، وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن، فإنه عز وجل قال: فغفرنا له ذلك ولم يتقدم سوى قوله تعالى: وظن داود أنما فتناه ونعلم قطعا أن الأنبياء - عليهم السلام - معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة إنا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع، ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى، وما حكى القصاص مما فيه [ ص: 186 ] نقص لمنصب الرسالة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر:
ونؤثر حكم العقل في كل شبهة إذا آثر الأخبار جلاس قصاص
انتهى، ويقرب من هذا من وجه ما قيل: إن قوما قصدوا أن يقتلوه - عليه السلام - فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم، فقصد أن ينتقم منهم، فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى، وامتحان له، هل يغضب لنفسه، أم لا؟ فاستغفر ربه مما عزم عليه من الانتقام منهم، وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به، وقيل: الاستغفار كان لمن هجم عليه، وقوله تعالى: فغفرنا له على معنى: فغفرنا لأجله، وهذا تعسف، وإن وقع في بعض كتب الكلام، وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف، نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوة، ولا يقبل تأويلا يندفع معه ذلك، ولا بد من القول بأنه لم يكن منه - عليه السلام - إلا ترك ما هو الأولى بعلي شأنه، والاستغفار منه، وهو لا يخل بالعصمة.