وروى البيهقي وجماعة عن أنه قال في ذلك ليس فيها صداع، وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر، وأخرج ابن عباس الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله تعالى لا فيها غول فقال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول امرئ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها وسقيت النديم منها مزاجا
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن، وروي ذلك عن مجاهد وابن زيد واختير التعميم، وإن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول، وفيه كلام في كتب المعاني وابن جبير ولا هم عنها ينزفون أي لا يسكرون كما روي عن وغيره، وهو بيان لحاصل المعنى، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئا بعد شيء، ونزف الهم دمعه نزعه كله، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها، فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه، فـ "لا ينزفون" مبنيا للمفعول كما قرأ ابن عباس الحرميان والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها، أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بـ"عن" قيل: لتضمينه معنى يصدرون، وقيل عن للتعليل والسببية، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه؛ لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وله سميت الخمر أم الخبائث، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار. وقرأ حمزة "ينزفون" بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما والكسائي في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب، فالهمزة فيه للصيرورة، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازما فهو مثل كبه فأكب، وهو أيضا بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه، قال عاصم الأبيرد اليربوعي:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وفي البحر أن أنزف مشترك بين سكر ونفد فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شرابه، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك. وقرأ ابن أبي إسحاق "ينزفون" بفتح الياء وكسر الزاي، بفتح الياء وضم الزاي، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو المأثور عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج وطلحة ابن أبي حاتم عن وابن مردويه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القيء [ ص: 89 ] وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها، ولولا أن الجمهور على ما سمعت أولا - حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه - لقلت: إن هذا التفسير هو الأولى. ابن عباس