لا الشمس ينبغي لها أي يتسخر ويتسهل كما في قولك: النار ينبغي أن تحرق الثوب، أو يحسن ويليق أي حكمة كما في قولك: الملك ينبغي أن يكرم العالم، واختار غير واحد المعنى الأول، وأصل ينبغي مطاوع بغى بمعنى طلب، وما طاوع وقبل الفعل فقد تسخر وتسهل، والنفي راجع في الحقيقة إلى ينبغي فكأنه قيل: لا يتسهل للشمس ولا يتسخر أن تدرك القمر أي في سلطانه بأن تجتمع معه في الوقت الذي حده الله تعالى له وجعله مظهرا لسلطانه، فإنه - عز وجل - جعل لتدبير هذا العالم بمقتضى الحكمة لكل من النيرين الشمس والقمر حدا محدودا ووقتا معينا يظهر فيه سلطانه فلا يدخل أحدهما في سلطان الآخر بل يتعاقبان إلى أن يأتي أمر الله عز وجل، وهذه الجملة لنفي أن تدرك الشمس القمر فيما جعل له، وقوله - تعالى - : ولا الليل سابق النهار لنفي أن يدرك القمر الشمس فيما جعل لها أي ولا آية الليل سابقة آية النهار، وظاهر سلطانها في وقت ظهور سلطانها، وإلى هذا المعنى يشير كلام ، قتادة ، والضحاك ، وعكرمة وأبي صالح، واختاره ليناسب قوله تعالى الزمخشري لا الشمس ينبغي لها ولأن الكلام في الآيتين دل عليه قوله - تعالى - : والشمس تجري الآيتان، وآخرا كل في فلك يسبحون وعبر بالإدراك أولا وبالسبق ثانيا - على ما في الكشاف - لمناسبة [ ص: 21 ] حال الشمس من بطء السير وحال القمر من سرعته، ولم يقل ولا القمر سابق الشمس ليؤذن - على ما قال الطيبي - بالتعاقب بين الليل والنهار وبنصوصية التدبير على المعاقبة فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل منهما عليها. وفي الكشف التحقيق أن المقصود بيان معاقبة كل من الشمس والقمر في ترتب الإضاءة، وسلطانه على الاستقلال وكذلك اختلاف الليل والنهار فقيل: ولا الليل سابق النهار كناية عن سبق آيته آيته فحصل الدلالة على الاختلاف أيضا إدماجا لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة، وجاء من ضرورة التقابل هذا المعنى في النهار أيضا من قوله تعالى: لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولما ذكر مع الشمس الإدراك المؤذن بأنها طالبة للحاق قيل "لا ينبغي" رعاية للمناسبة وجيء بالفعل المؤذن بالتجدد، ولما نفي السبق في المقابل أكد ذلك بأن جيء بالجملة الاسمية المحضة من دون الابتغاء لأنه مطلوب اللحوق اهـ.
ولم يذكر السر في إدخال حرف النفي على الشمس دون الفعل المؤذن بصفتها ويوشك أن يكون أخفى من السها وكان ذلك ليستشعر منه في المقام الخطابي أن الشمس إذا خليت وذاتها تكون معدومة كما هو شأن سائر الممكنات، وإنما يحصل لها ما يحصل من علته التي هي عبارة عن تعلق قدرته تعالى به على وفق إرادته - سبحانه - الكاملة التي لا يأبى عنها شيء من أشياء عالم الإمكان، ويفيد ذلك في غاية كونها مسخرة في قبضة تصرفه - عز وجل - لا شيء فوق تلك المسخرية، وفيه تأكيد لما يفيده قوله - تعالى - : ذلك تقدير العزيز العليم ورد بليغ لمن إليها يسند التأثير.
وجوز أن يكون ذلك لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو: ما أنا قلت هذا، وما زيد سعي في حاجتك يفيد التخصيص، أي ما أنا قلت هذا بل غيري، وما زيد سعي في حاجتك؛ بل غيره على ما حققه علماء البلاغة، والمقصود من نفي تسهل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفي أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه، ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عز وجل، وهذا - بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم - مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها. وقال بعض الفضلاء فيما كتبه على هامش تفسير عند قوله: وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. وجه الدلالة أن الإيلاء المذكور يفيد التخصيص والابتغاء بمعنى الصحة والتسهيل المساوقين للاقتدار فيفيد الكلام أن الشمس ليس لها قدرة على إدراك القمر وسرعة المسير التي هي ضد لحركتها الخاصة، بل القدرة عليهما لله سبحانه فهو فاعل لحركتها حقيقة ولها مجرد المحلية للحركة، فصحت الدلالة المذكورة، ثم قال: وتفصيل الكلام أن الله سبحانه ذكر أولا أن الشمس تجري لمستقر لها إشارة إلى حركتها الخاصة، ثم ذكر سبحانه أنه قدر القمر أيضا في منازل الشمس حتى عاد كالعرجون القديم أي رجع إلى الشكل الهلالي، وذلك إنما يكون عند قربه إلى الشمس ورجوعه إليها، ولما كان للوهم سبيل إلى أن يتوهم أن جري الشمس وسيرها وتقدير أنوار القمر وجرمه المرئي مما يستند إلى إرادتهما على سبيل إرادتنا التي تتعلق تارة بالشيء وأخرى بضده فيصح ويتيسر للنيرين الأمران كما يصحان لنا، وأن يتوهم أن إسناد أمر [ ص: 22 ] الشمس والقمر إلى التقدير الإلهي من قبيل إسناد أفعالنا إليه من حيث إن الإقدار والتمكين منه تعالى وأنه سبحانه المبدأ والمنتهى إلى غير ذلك من الاعتبارات - نبه جل شأنه بالتخصيص المذكور على دفع على هذا التوهم على سبيل التنبيه على كون الشيء مسخرا مضطرا في أمره بسلب اقتداره على ضده، وإن لم يذكر جميع أضداده، فأشار سبحانه إلى أن الحركة السريعة المفضية إلى إدراك القمر التي هي ضد الحركة الخاصة للشمس لا يصح استنادها إليها، والقدرة عليها مختصة بغيرها البيضاوي وهو العزيز العليم حتى يظهر أن وجود الحركة الخاصة لها مستند إلى تقديره تعالى وتدبيره جل شأنه من غير مشاركة للشمس معه سبحانه، ثم أردف ذلك بحكم القمر حيث قال تعالى ولا الليل سابق النهار فإن الأقرب كون المعنى فيه ليس لآية الليل القدرة على أن تسبق آية النهار بحيث تفوتها ولا تكون لها مراجعة إليها ولحوق بها تنبيها على أن تقدير القمر في المنازل على الوجه المرصود الذي يعود به إلى الشكل الهلالي الشبيه بالعرجون ويفضي إلى مقاربة الشمس مستند أيضا إلى تقديره تعالى وتدبيره سبحانه من غير مشاركة للقمر فيه، فالجملتان في قوة التأكيد للآيتين السابقتين ولهذا فصلتا اهـ، وفيه دغدغة لا تخفى على ذكي، فتأمل!
وما أشار إليه من أن معنى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أن الشمس لا قدرة لها على أن تدرك القمر في سيره لبطء حركتها الخاصة وسرعة حركته كذلك قاله غير واحد. وادعى النحاس أنه أظهر ما قيل في معناه، وبينه وبين ما تقدم من المعنى قرب ما. بل قال بعضهم: الفرق بين الوجهين بالاعتبار، وقال بعض من ذهب إليه في ولا الليل سابق النهار إن المراد أن القمر لا يسبق الشمس بالحركة اليومية، وهي ما تكون له وكذا لسائر الكواكب بواسطة فلك الأفلاك، فإن هذه الحركة لا يقع بسببها تقدم ولا تأخر وقيل: المراد بقوله تعالى لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه، فإنه سبحانه خص كلا منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس، وعن أن المراد أنهما لا يجتمعان فيما يشاهد من السماء ليلة الهلال خاصة أي لا تبقى الشمس طالعة إلى أن يطلع القمر ولكن إذا غربت طلع، وقال الحسن المراد لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر المغيب قبل طلوعها وكلا القولين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما، وقيل في معنى الجملة الثانية: إن الليل لا يسبق النهار ويتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه. يحيى بن سلام:
وفي الدر المنثور عن بعض الأجلة أي لا ينبغي إذا كان ليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار. وعليك بما تقدم، فهو لعمري أقوم. واستدل بالآية أن روى النهار سابق على الليل في الخلق. العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا رضي الله تعالى عنه والمأمون والفضل بن سهل في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا: إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل؟ فما عندكم؟ فأرادوا الكلام فلم يكن عندهم شيء، فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله تعالى! قال: نعم، من القرآن أم من الحساب؟ قال له الفضل: من جهة الحساب، فقال رضي الله تعالى عنه: قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان، والكواكب في مواضع شرفها؛ فزحل في الميزان، والمشتري في السرطان، والمريخ في الجدي، والشمس في الحمل، والزهرة في الحوت، وعطارد في السنبلة، والقمر في الثور، فتكون الشمس في العاشر وسط السماء، فالنهار قبل الليل، ومن القرآن قوله تعالى: ولا الليل سابق النهار أي الليل قد سبقه النهار اهـ.
[ ص: 23 ] وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة. ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر، والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه، فالرضى أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه، وفهم الإمام من قوله تعالى ولا الليل سابق النهار أن الليل مسبوق لا سابق، ومن قوله سبحانه يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا أن الليل سابق لأن النهار يطلبه، وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقا مسبوقا بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية، والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه. وتعقبه بأن فيه جعل الضمير الفاعل في أبو حيان يطلبه عائدا على النهار وضمير المفعول عائدا على الليل والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل؛ لأنه كان قبل دخول همزة النقل " يغشي الليل النهار " وضمير المفعول عائد على النهار لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال. انتهى. فتأمل ولا تغفل.
وقرأ عمار بن عقيل "سابق" بغير تنوين "النهار" بالنصب قال : سمعته يقرأ فقلت: ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار بالتنوين فحذفت لأنه أخف. وفي البحر حذف التنوين لالتقاء الساكنين "وكل" أي كل واحد من الشمس والقمر إذ هما المذكوران صريحا، والتنوين عوض عن المضاف إليه، وقدره بعضهم ضمير جمع العقلاء ليوافق ما بعد، أي كلهم، وقدره آخر اسم إشارة أي كل ذلك أي المذكور الشمس والقمر المبرد في فلك هو كما قال مجرى الكوكب سمي به لاستدارته كفلكة المغزل وهي الخشبة المستديرة في وسطه وفلكة الخيمة وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة. الراغب
يسبحون أي يسيرون فيه بانبساط وكل من بسط في شيء فهو يسبح فيه، ومنه السباحة في الماء، وهذا المجرى في السماء، ولا مانع عندنا أن يجري الكوكب بنفسه في جوف السماء وهي ساكنة لا تدور أصلا وذلك بأن يكون فيها تجويف مملوء هواء أو جسما آخر لطيفا مثله يجري الكوكب فيه جريان السمكة في الماء أو البندقة في الأنبوب مثلا، أو تجويف خال من سائر ما يشغله من الأجسام يجري الكوكب فيه أو بأن تكون السماء بأسرها لطيفة، أو ما هو مجرى الكوكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه، وتجري كما تجري السمكة في البحر أو في ساقية منه وقد انجمد سائره، وانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لمقعر فلك القمر عند الفلاسفة وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء لم يتم دليل على شيء منه، وأقوى ما يذكر في ذلك شبهات أوهن من بيت العنكبوت وإنه ورب السماء لأوهن البيوت.
ويجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير ويكون الكوكب فيه يجري بجريانه في ثخن السماء من غير دوران للسماء، ولا مانع من أن يعتبر هذا الفلك لبعض الكواكب الفلك الكلي ويكون فيه نحو ما يثبته أهل الهيئة لضبط الحركات المختلفة من الأفلاك الجزئية لكن لا يضطر إلى ذلك بناء على القواعد الإسلامية، كما لا يخفى إلا أن في نسبة السبح إلى الكوكب نوع إباء بظاهره عن هذا الاحتمال، وفي كلام الأئمة من الصحابة وغيرهم إيماء إلى بعض ما ذكرنا.
[ ص: 24 ] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في العظمة عن وأبو الشيخ أنه قال في الآية: ابن عباس كل في فلك فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج الأخيران عن أنه قال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل، والنجوم في فلكة كفلكة المغزل، فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن. وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر - قدس سره - جعل الله تعالى السماوات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السماوات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص، وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها، ثم إنه - عز وجل - لما جعل السباحة للنجوم في هذه السماوات حدثت لسيرها طرق، لكل كوكب طريق، وهو قوله - تعالى - : مجاهد والسماء ذات الحبك فسميت تلك الطرق أفلاكا، فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم، فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية، فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير، وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة، وجعل سبحانه لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة من السماء تعينها أجرام الكواكب لإضاءتها دونها... إلى آخر ما قال. وقال الإمام: إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق السماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الاستدارة، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى في فلك يسبحون والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه.
وأرباب الهيئة أنكروا ذلك للزوم الخرق والالتئام إن انشق موضع الجري والتأم، أو الخلاء إن انشق ولم يلتئم، والكل محال عندهم، وعندنا لا محالية في ذلك، وما يلزم هنا الخرق والالتئام لأنه المفهوم من يسبحون، ولا دليل لهم على الاستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل. وظاهر الآية أن كل واحد من النيرين في فلك أي في مجرى خاص به، وهذا مما يشهد به الحس، وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنهم يقولون باتحاد الفلك والسماء، ولما سمعوا عمن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع من المشرق إلى المغرب ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها، والفلك الأعظم لإحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب، وسمعوا عن الشارع ذكر السماوات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا: السماوات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السماوات، والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك، وقد أخطأوا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه، فالفلك غير السماء، وقوله - تعالى - مع ما هنا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا لا يدل على الاتحاد لما قلنا من أن الكوكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية، ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية. نعم، ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون، ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك، فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات، كلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية، وهي لا تكسف [ ص: 25 ] الثوابت التي عروضها أكثر من عروضها ولا لها اختلاف منظر ليعرف بأحد الوجهين كون الجميع فوق العلوية أو كتداوير، ولا يلزم اختلاف إبعاد بعضها من بعض لجواز تساوي أجرام التداوير وحركاتها، ولا اختلاف حركاتها بالسرعة والبطء للبعد والقرب، وموافقة الممثل ومخالفته؛ لأنا لا نسلم أن حركاتها لا تختلف بذلك المقدار، ولا اختلاف أبعادها من الأرض لأنها غير محققة، ويجوز أيضا أن تكون كلها مركوزة في محدب ممثل زحل على أنه يتحرك الحركة البطيئة والمعدل الحركة السريعة، وأيضا يجوز أن يكون فيما سموه الفلك الأطلس كواكب لا ترى لصغرها جدا أو ترى وهي سريعة الحركة، ولم يرصد كل كوكب ليتحقق بطء حركة الجميع، وأيضا يجوز أن تكون السيارات أكثر من سبع فيحتاج إلى أزيد من سبع سماوات، ويقرب هذا ظفر أهل الأرصاد الجديدة بكوكب سيار غير السبع سموه باسم من ظفر به وأدركه وهو هرشل، وبالجملة لا قاطع فيما قالوه، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذا الباب كلام آخر مبناه الكشف، وهو أن العرش الذي استوى الرحمن سبحانه عليه سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية، وهي على الماء الجامد، وفي جوفه الكرسي وهو على شكله في التربيع لا في القوائم، ومقره على الماء الجامد أيضا، وبين مقعر العرش وبينه فضاء واسع وهواء مخترق، وفي جوف الكرسي خلق الله تعالى الفلك الأطلس جسما شفافا مستديرا مقسما إلى اثني عشر قسما هي البروج المعروفة، وفي جوفه الفلك المكوكب وما بينهما الجنات وبعد أن خلق الله تعالى الأرضين واكتسى الهواء صورة الدخان خلق الله سبحانه السماوات السبع وجعل في كل منها كوكبا وهي الجواري، وزعم الخفاجي أن المراد بالفلك في الآية الفلك الأعظم لأن الشمس والقمر وكذا سائر الكواكب تتحرك بحركته فالسباحة عنده عبارة عن الحركة القسرية، وفي القلب من ذلك شيء، ثم على ما هو الظاهر من أن لكل واحد فلكا يخصه ذهبوا إلى أن فلك الشمس فوق فلك القمر لما أنه يكسفها، والمكسوف فوق الكاسف ضرورة، وذكر معظم أهل الهيئة أن الفلك الأدنى فلك القمر وفوقه فلك عطارد وفوقه فلك الزهرة وفوقه فلك الشمس وفوقه فلك المريخ وفوقه فلك المشتري وفوقه فلك زحل واستدلوا على بعض ذلك بالكسف، وعلى بعضه الآخر بأن فيه حسن الترتيب وجودة النظام، ولا مانع فيما أرى من القول بذلك لكن لا على الوجه الذي قال به أهل الهيئة من كون السماوات هي الأفلاك الدائرة بل على وجه يتأتى معه القول بسكون السماوات ودوران الكواكب في أفلاكها ومجاريها بعضها فوق بعض، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فراجعه! وجوز كون ضمير يسبحون عائدا على الكواكب ويشعر بها ذكر الشمس والقمر والليل والنهار، ورجح على الأول بأن الإتيان بضمير الجمع عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف بخلافه على الأول فإنه محوج إلى أن يقال: اختلاف أحوال الشمس والقمر في المطالع وغيرها نزل منزلة تعدد أفرادهما فكان المرجع شموسا وأقمارا، وظني أنه لا يحتاج إلى ذلك بناء على أنه قد يعتبر الاثنان جمعا، أو بناء على ما قال الإمام من أن لفظ "كل" يجوز أن يوحد نظرا إلى لفظه وأن يجمع نظرا إلى كونه بمعنى الجميع، وأما التثنية فلا يدل عليها اللفظ ولا المعنى قال: فعلى هذا يحسن أن يقال زيد وعمرو كل جاءوا وكل جاءا ولا يحسن كل جاءا بالتثنية، واستدل بالإتيان بضمير جمع العقلاء على أن الشمس والقمر من ذوي العقول. وأجيب بأن ذاك لما أن المسند إليهما فعل ذوي العقول كما في قوله تعالى في حق الأصنام ما لكم لا تنطقون وقوله سبحانه ألا تأكلون والظواهر غير ما ذكر مع المستدلين. واستدل بالآية بعض فلاسفة الإسلام القائلين باتحاد السماء والفلك على استدارة السماء وجعلوا من اللطائف فيها أن كل في فلك [ ص: 26 ] لا يستحيل بالانعكاس، نحو: كلامك كمالك، وسر فلا كبا بك الفرس، وقالوا: لا يعكر على ذلك أنه سبحانه سماها سقفا في قوله عز قائلا والسقف المرفوع لأن السقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفا بالتقبيب، وأنت تعلم أن السماوات غير الأفلاك، ومع هذا أقول باستدارة السماوات كما ذهب إليه بعض السلف، وبعض ظواهر الأخبار يقتضي أنها أنصاف كرات كل سماء نصف كرة كالقبة على أرض من الأرضين السبع، وإليه ذهب الشيخ الأكبر وقال بالاستدارة لفلك المنازل دون السماوات السبع، وادعى أن تحت الأرضين السبع التي على كل منها سماء ماء، وتحته هواء، وتحته ظلمة وعليه. فليتأمل في كيفية سير الكوكب بعد غروبه حتى يطلع.
ثم إن الفلاسفة الذاهبين إلى استدارة السماء تمسكوا في ذلك بأدلة أقربها على ما قيل دليلان، الأول أنا متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت رأس في كل واحدة منها، ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن، وكذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب، فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول، فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره، وهذا السطح مستدير حسا فكذا سطح السماء الموازي له. والثاني أن أصحاب الأرصاد دونوا في كتبهم مقادير أجرام الكواكب، وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد ما في أنصاف نهار، تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون جرم السماء كريا، ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكنا والكوكب متحركا إذ لو كان الفلك متحركا جاز أن يكون مربعا وتكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلة، وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الاعتبار المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين، ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم.