ونكتب ما قدموا ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة وآثارهم التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء في سبيل الله تعالى بنوه، وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما بين العباد، وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين.
أخرج عن ابن أبي حاتم جرير بن عبد الله البجلي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا ثم تلا ونكتب ما قدموا وآثارهم »، وعن أنه قال في الآية: هذا في الخطو يوم الجمعة. أنس
وفسر بعضهم الآثار بالخطأ إلى المساجد مطلقا لما أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وحسنه عن والترمذي قال أبي سعيد الخدري بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله تعالى: إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه يكتب آثاركم ثم تلا عليهم الآية، فتركوا. كان
وأخرج في الزهد الإمام أحمد وغيرهما عن وابن ماجه قال كانت ابن عباس الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت ونكتب ما قدموا وآثارهم فقالوا بل: نمكث مكاننا.
وأنت تعلم أنه لا دلالة فيما ذكر على أن الآثار هي الخطا لا غير وقصارى ما يدل عليه أنها من الآثار فلتحمل الآثار على ما يعمها وغيرها. واستدل بهذين الخبرين ونحوهما على أن الآية مدنية.
وقال : ليس ذلك زعما صحيحا وشنع عليه بما ورد مما يدل على ذلك، وانتصر له أبو حيان الخفاجي بأن الحديث الدال معارض بما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية ولم يذكر أنها نزلت فيهم وقراءته عليه الصلاة والسلام لا تنافي تقدم النزول، ومراد أبي حيان هذا لا أنه أنكر أصل الحديث، ولا يخفى أن الحديثين [ ص: 219 ] السابقين ظاهران في أن الآية: نزلت يومئذ وليس في حديث الصحيحين ما يعارض ذلك، والعجب من الخفاجي كيف خفي عليه هذا.
وقيل ما قدموا من النيات وآثارهم من الأعمال، والظاهر أن المراد بالكتابة الكتابة في صحف الملائكة الكرام الكاتبين ولكونها بأمره عز وجل أسندت إليه سبحانه، وأخرت في الذكر عن الأحياء مع أنها مقدمة عليه لأن أثرها إنما يظهر بعده، وعلى هذا يضعف تفسير ما قدموا بالنيات بناء على ما يدل عليه بعض الأخبار من أن النيات لا تطلع عليها الملائكة عليهم السلام ولا يؤمرون بكتابتها.
وفسر بعضهم الكتابة بالحفظ أي نحفظ ذلك ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب، ولعلك تختار أن كتابة ما قدموا وآثارهم كناية عن مجازاتهم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وحينئذ فوجه ذكرها بعد الإحياء ظاهر.
وعن الحسن أن إحياء الله تعالى الموتى أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان وجعلا الموت مجازا عن الجهل، وتعريف «الموتى» للعهد، والكلام عليه توكيد الموعد المبشر به كأنه قيل: إنما ينفع إنذارك في هؤلاء لأنا نحييهم ونكتب صالح أعمالهم وآثارهم ولا يخفى ما في ذلك من البعد، وقرأ والضحاك زر «ويكتب» بالياء مبنيا للمفعول «وآثارهم» بالرفع. ومسروق
وكل شيء من الأشياء كائنا ما كان، والنصب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء أحصيناه أي بيناه وحفظناه، وأصل الإحصاء العد ثم تجوز به عما ذكر لأن العد لأجله.
في إمام أي أصل عظيم الشأن يؤتم ويقتدى به ويتبع ولا يخالف مبين مظهر لما كان وسيكون، وهو - على ما في البحر حكاية عن مجاهد وقتادة - اللوح المحفوظ، وبيان كل شيء فيه إذا حمل العموم على حقيقته بحيث يشمل حوادث الجنة وما يتجدد لأهلها من دون انقطاع على ما نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع لكنه على طرز أعلا وأشرف، ونحو هذا ما قال غير واحد من اشتمال القرآن الكريم على كل شيء حتى أسماء الملوك ومدد ملكهم، أو يقال إن بيان ذلك فيه ليس دفعة واحدة بل دفعات بأن يبين فيه جملة من الأشياء كحوادث ألف سنة مثلا ثم تمحى عند تمام الألف ويبين فيه جملة أخرى كحوادث ألف أخرى وهكذا، والداعي لما ذكر أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة وبيان كل شيء فيه على الوجه المعروف لنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي وهو محال بالبديهة. وإذا أريد بكل شيء الأشياء التي في هذه النشأة وأفعال العباد وأحوالهم فيها فلا إشكال في البيان على الوجه المعروف دفعة. وابن زيد
والذي يترجح عندي أن ما كتب في اللوح ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهو متناه وبعض الآثار تشهد بذلك والمطلق منها محمول على المقيد، وحقيقة اللوح لم يرد فيها ما يفيد القطع ولذا نمسك عن تعيينها، وكون أحد وجهيه ياقوتة حمراء والثاني زمردة خضراء جاء في بعض الآثار ولا جزم لنا بصحته، وكونه أحد المجردات وما من شيء إلا وهو يعلمه بالفعل مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين وإنما هو من تخيلات الفلاسفة ومن حذا حذوهم فلا ينبغي أن يعول عليه، وفسر بعضهم الإمام المبين بعلمه تعالى الأزلي كما فسر أم الكتاب في قوله تعالى: وعنده أم الكتاب [الرعد: 39] به، وهو أصل لا يكون في صفوف صنوف الممكنات ما يخالفه كما يلوح به قول : الشافعي
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن
ووصفه بمبين لأنه مظهر فقد قالوا: العلم صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أو لأن إظهار الأشياء من [ ص: 220 ] خزائن العدم يكون بعد تعلقه فإن القدرة إنما تتعلق بالشيء بعد العلم، فالشيء يعلم أولا ثم يراد ثم تتعلق القدرة بإيجاده فيوجد، ولا يخفى ما في هذا التفسير من ارتكاب خلاف الظاهر، وعليه فلا كلام في العموم، نعم في كيفية وجود الأشياء في علمه تعالى كلام طويل محله كتب الكلام.
وعن أنه أريد به صحف الأعمال وليس بذاك، وحكي لي عن بعض غلاة الحسن الشيعة أن المراد بالإمام المبين كرم الله تعالى وجهه، وإحصاء كل شيء فيه من باب: علي
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ومنهم من يزعم أن ذلك على معنى جعله كرم الله تعالى وجهه خزانة للمعلومات على نحو اللوح المحفوظ، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الجهل بالكتاب الجليل نسأل الله تعالى العفو والعافية، ويمكن أن يقال: إنهم أرادوا بذلك نحو ما أراده المتصوفة في إطلاقهم الكتاب المبين على الإنسان الكامل اصطلاحا منهم على ذلك فيهون أمر الجهل، وكمال كرم الله تعالى وجهه لا ينكره إلا ناقص العقل عديم الدين. علي
وقرأ أبو السمال « وكل » بالرفع على الابتداء