والقبول مصدر وهو من المصادر الشاذة وهناك مضاف محذوف، والمعنى رضي بها متلبسة بأمر ذي قبول ووجه ذي رضا، وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من الإكرام، ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل ك تعجل بمعنى استعجل والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من ولادتها بقبول [ ص: 139 ] حسن وأظهر الكرامة فيها حينئذ وفي المثل خذ الأمر بقوابله، وجوز أن تكون الباء زائدة، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي قبلها قبولا حسنا، وعدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع، أي تقبل نذرها مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة.
وأنبتها نباتا حسنا أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عنه أنه سوى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام، وقيل: تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات، و ابن عباس نباتا هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات، وقيل: التقدير فنبتت نباتا، والنبات والنبت بمعنى، وقد يعبر بهما عن النابت.
وكفلها زكريا وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أي ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها على ما ذكر في حديث وكل ذلك من آثار قدرته تعالى، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك، وقرأ بتشديد الفاء ابن عباس، حمزة والكسائي وقصروا " زكريا " غير وعاصم، في رواية عاصم ابن عياش وهو مفعول به ل (كفلها) وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا " زكريا " ورفعوه على الفاعلية، وفيه لغتان أخريان إحداهما: زكري بياء مشددة من غير ألف، وثانيتهما: زكر بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لألف التأنيث، وقرأ (وأكفلها)، وقرأ أبي (فتقبلها ربها وأنبتها وكفلها) على صيغة الدعاء في الأفعال الثلاثة ونصب ربها على النداء، أي فاقبلها يا ربها وربها، واجعل مجاهد زكريا كافلا لها، وقد استجاب الله تعالى دعاءها في جميع ذلك، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي.
كلما دخل عليها زكريا المحراب بيان لقبولها ولهذا لم يعطف، والمحراب على ما روي عن رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في ابن عباس بيت المقدس وجعلت بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة، وقيل: المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب; وقيل: أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي، وأصله مفعال صيغة مبالغة كمطعان فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه، وقيل: إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه، ولبعض المغاربة في المدح:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب
وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها، ونصب المحراب على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى ب (في) أو ب (إلى) ، وإظهار الفاعل قيل: لفصل الجملة، و كلما ظرف على أن (ما) مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط، ومن الناس من وهم، فقال: إن ناصبه فعل [ ص: 140 ] الشرط، وادعى أنه الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملا، والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه.وجد عندها رزقا أي أصاب ولقي بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها، أخرج عن ابن جرير الربيع قال: إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، والتنوين للتعظيم فعن رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة، فقد روي أنها لم ترضع ثديا قط، وقيل: إن هذا كان بعد أن ترعرعت، ففي رواية ابن عباس ابن بشر عن رضي الله تعالى عنهما «أن ابن عباس زكريا عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت وتركت في المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه».
قال يا مريم استئناف بياني أنى لك هذا أي من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك، ومجيء (أنى) بمعنى من أين، أو كيف تقدم الكلام عليه، واستشهد للأول بقوله:
تمنى بوادي الرمث زينب ضلة فكيف ومن (أنى) بذي الرمث تطرق
أنى ومن أين آبك الطرب من حيث لا صبوة ولا ريب
واستدل بالآية على جواز لأن الكرامة للأولياء مريم لا نبوة لها على المشهور، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة والشيعة، وخالف في ذلك المعتزلة، وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأجاب بأنه كان معجزة الجبائي لزكريا عليه الصلاة والسلام، ورد الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبى ذلك، ولعله مبني على الظاهر، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لإظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه، والقول بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا يخفى.
قالت استئناف كالذي قبله هو من عند الله قيل: أرادت من الجنة، وقيل: مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد، وقيل: تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفسا، وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال:
تكلم في المهد النبي (محمد) (ويحيى وعيسى والخليل ومريم)
ومبرى (جريج) ثم (شاهد يوسف) (وطفل لذي الأخدود) يرويه مسلم
(وطفل) عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون (طفلها) وفي زمن الهادي (المبارك) يختم